(إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) - د. حسناء القنيعير

  • 1/11/2015
  • 00:00
  • 14
  • 0
  • 0
news-picture

جاء الهجوم المسلح على مقر صحيفة "شارلي إيبدو" الفرنسية في باريس، بعد يومين من وقوع اعتداء آثم استهدف به تنظيم "داعش" الإرهابي حدود بلادنا الشمالية، كلاهما عمل إرهابي سافر بامتياز، وعدوان همجي على القيم الإسلامية والإنسانية. لقد تصدرت صورة العرب والمسلمين قائمة وسائل الإعلام العالمية بوصفهم سادة الإرهاب وصانعيه منذ 11 سبتمبر 2001، وأصبح الإرهاب العالمي سمة تفرّد بها بعض العرب والمسلمين، إذ مارسوه في شتى أنحاء العالم، وكانت الدول العربية قد ساهمت في نمو الجماعات الإرهابية وتضخمها عندما لم تعمل على استئصال رؤوس الشر من الدعاة ومدرسي علوم دينية ومستغلي المنابر، ولم تعمل على تنقية الخطاب الديني والمناهج الدراسية من سموم التشدد والغلو والتكفير، حتى حاول الإرهابيون النيل من أمن بلداننا، ثم انتشروا في العالم كله ليقيموا دولة التنظيم المزعومة ! فعاثوا فساداً في البر والبحر باسم الإسلام والمسلمين ! عدّ كثير من الباحثين العرب والأجانب، التكفير والقتل عقيدة أساسية ضمن عقائد الإسلام السياسي، واستدلوا على ذلك بمسلك جماعات إسلامية في عدد من الدول العربية والإسلامية، منذ مطلع السبعينيات وحتى أيامنا هذه، وذلك بتحوير المفاهيم الدينية، وتحويلها إلى حرب ضد الداخل الذي يعيش فيه المسلم والمستأمن، واتهام الآخر القريب بالتكفير والردة، وممارسة أقسى ضروب العنف ضد بعض الفئات الاجتماعية والثقافية والتنكيل بها، سعيا منهم لهز الثقة والإخلال بالأمن، وليحققوا أهدافهم التي أقرب ما تكون إلى أهداف الفاشية. فقد تبنى أنصار مذهب الغلو والتكفير واستحلال الدماء المعصومة، ما قال به بعض الإسلامويين المتعصبين كسيد قطب، بأن الإسلام أوجب قتال المسلمين والحكام كافة لإقامة دولتهم المزعومة، وقتال غير المسلمين وغزو العالم كله لنشر الإسلام، وفي هذا ما فيه من إثارة للفتنة، ودعوة للتكفير المفضي إلى القتل. وهو من أبرز سمات الخوارج وعقائدهم المدمرة. فعنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا،أنه أَتَاهُ رَجُلانِ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالا : " إِنَّ النَّاسَ ضَيَّعُوا وَأَنْتَ ابْنُ عُمَرَ، وَصَاحِبُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَخْرُجَ ؟ فَقَالَ : يَمْنَعُنِي أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ دَمَ أَخِي، فَقَالا : أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ : وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاتَكُونَ فِتْنَةٌ ؟َ قَالَ : قَاتَلْنَا حَتَّى لَمْ تَكُنْ فِتْنَةٌ، وَكَانَ الدِّينُ للَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتَّى تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِغَيْرِ اللَّهِ "! إن ما يحدث في العالم من قبل إرهابيي داعش والقاعدة ليس إلا الفتنة بعينها التي حذر منها ابن عمر، فالإسلام لم يوجب قتال المسلمين الذين يقيمون شرائع الله، لما في ذلك من إثارة للفتنة وزعزعة للأمن، فلا قتال لمن يقيم الصلاة ويؤذن لها، روي عن عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا غَزَا بِنَا قَوْمًا لَمْ يَكُنْ يَغْزُو بِنَا حَتَّى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ فَإِنْ سَمِعَ أَذَانًا كَفَّ عَنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانًا أَغَارَ عَلَيْهِم "، أما غير المسلمين فلا يقاتلون إلا في حالتين : الأولى إكراه المسلمين على الردة عن دينهم وفتنتهم عنه قال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)، والثانية إخراج المسلمين من ديارهم :( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ). فهل تحقق هذا في كل الأحداث الإرهابية التي يمارسها خوارج العصر الحديث ؟ وهل لا تقيم بلادنا شرائع الدين؟ وهل فرنسا دولة للمسلمين حاول حكامها فتنة مسلميها عن دينهم وإخراجهم منها؟ ألا يستمتع المسلمون والفرنسيون المسلمون لا سيما المهاجرون بحقوق لا يستمتعون بها في العديد من بلدانهم ؟ ثم لا مبرر لما حدث من قتل وإرهاب فيها، بحجة الدفاع عن رسول الله، فالرسول نفسه الذي يزعمون الدفاع عنه هو القائل بأن زوال الكعبة أهون عند الله من قتل نفس بريئة، فضلاً عن أن القرآن نفسه يحرّم قتل النفس البريئة، ويشبّه قتلها بقتل الناس أجمعين ألا يستمتع المسلمون والفرنسيون المسلمون لا سيما المهاجرون بحقوق لا يستمتعون بها في العديد من بلدانهم ؟ ثم لا مبرر لما حدث من قتل وإرهاب فيها، بحجة الدفاع عن رسول الله، فالرسول نفسه الذي يزعمون الدفاع عنه هو القائل بأن زوال الكعبة أهون عند الله من قتل نفس بريئة، فضلاً عن أن القرآن نفسه يحرّم قتل النفس البريئة، ويشبّه قتلها بقتل الناس أجمعين. أما التكفير، فلا يجوز تكفير أحد إلا في حال إنكاره ما هو معلوم من الدين بالضرورة، ويعني النصّ يقيني الورود من الله تعالى أو الرسول صلى الله عليه وسلم (القطعي الدلالة الذي لا يحتمل التأويل)، لذا يقول الشوكاني " اعلم أن الحكم على المسلم بخروجه من دين الإسلام، ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار ". إنّ الغلو في التكفير واستحلال الدماء المحرمة، كدماء المسلمين وأهل الذمة والمعاهدين وغيرهم ممن لم يقاتلوا المسلمين، شيء مما دأب على تزيينه في عقول الشباب وأبناء المسلمين بعض الدعاة المحرضين الذين سماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم (دعاة على أبواب جهنم) ووصفهم بأنهم (قوم يهدون بغير هديي.. وهم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)!. فلقد سيطر التكفير على عقول كثير من ذوي التطرف حتى أصيبوا بلوثة النقاء والصفاء، ما جعل ضمائرهم تستريح إلى إصدار فتاوى التكفير وإباحة الدماء التي أدت في آخر المطاف إلى تجفيف ضمائر الإرهابيين، وتحريرهم من عقدة الشعور بالذنب، وإقدامهم على قتل الضحايا لنيل شرف الشهادة. وإني لأعجب من قول أحدهم بعد مجزرة باريس، دفاعا عن الدعاة (إن حادث الهجوم المسلح على مقر صحيفة "شارل إيبدو" في باريس، هو هدم لكل ما يتكبده الدعاة من بناء عبر سنوات)، فمتى فعل العديد من الدعاة ذلك ؟ ومتى دعا بعضهم للبناء؟ ألم يتساءل الملك عبدالله – حفظه الله – منذ أشهر قليلة عن سبب صمتهم، مطالبا إياهم بطرد الكسل عنهم ؟ ما يؤكد أنه فاض به الكيل، من صمت الدعاة والوعاظ والمشتغلين بالدين، عن إدانة الإرهاب، وتوعية الشباب، ومجابهة المحرضين والداعمين والممولين ؟ وأحداث شرورة وما حدث مؤخرا في الحدود الشمالية، يكشف عن تجاهل بعضهم لما يمارسه الإرهابيون في بلادنا، تلك النبتة الشيطانية التي زرعها الإخوان والسروريون ذات جحيم صحوي في جنباتها على حين غفلة من الجميع، فهل الدعاة الذين ذكرهم دعاة آخرون لا نعرفهم؟! نعم لقد تراجع البعض، والبعض الآخر ما يزال صامتا، فلم يشجب ولم يبارك، وكأني ببعض آخر الشيطان الذي غرر بأتباعه وحرضهم على الكفر، ثم تبرأ منهم ( كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) ! فأن يتسابق بعضٌ من صانعي فكر الإرهاب إلى التنديد وشجب العمليات الانتحارية التي تحدث في بلادنا، فذلك يعني تكتيكا آنيا تمليه أحداث اللحظة، واتقاء نقمة بعض أبناء المجتمع الذين انكشف لهم زيف ما يدّعون، كما يمكن تفسيره بأنه خوف من أن تتسع دائرة العنف اتساعًا لا يمكنهم من السيطرة عليه، ما يجعل الجهات المسؤولة تتبع ما يحدث بحثا عن المنابع التي أفرزته، فيسارع العديد من دعاة التحريض إلى الشجب وإعلان البراءة، حتى بدا ما قاموا به وكأنه ذر الرماد في العيون، لأنه إن كان كل من بادروا إلى الإنكار برءاء من ذلك الفكر فمن ذا الذي زرعه وأصّله وباركه والتمس الذرائع الشرعية له ؟ لشدّ ما يصدق على هؤلاء قوله تعالى :( وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) ! أخيراً، لقد أعطى هؤلاء الإرهابيون أنفسهم حق الدفاع عن قضايا العرب دون أن يكلفهم أحد بما يقومون به، تحت مظلة الجهاد الذي أسبغوا عليه مبررات تنبثق من مشاعر الحقد والكراهية والعنف، غير عابئين بحجم الخسائر التي ُمني بها العرب على الأصعدة السياسية والاقتصادية والثقافية، كانت باريس قد دعت عبر برلمانها إلى الاعتراف بقيام الدولة الفلسطينية، وصوتت في مجلس الأمن قبل أيام إلى جانب مشروع القرار الفلسطيني لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فضلاً عن دعمها لإخراج حركة حماس من لائحة المنظمات الإرهابية. لقد قلب الإرهابيون الدوغمائيون الموازين العالمية التي ضمنتها المعاهدات والمواثيق الدولية، التي منها حق الشعوب والدول في الأمن وتحديد خياراتها، حين فرض الإرهابيون أجندة خاصة تنضح دموية وعنفا، فقاموا بترويع الآمنين وعبثوا بالأمن العالمي، ولم يتركوا وسيلة لممارسة إرهابهم إلا قاموا بها، وكل ذلك باسم الإسلام الذي لم يلقَ على أيدي أعدائه ما لقيه على أيدي تلك الحفنة الشريرة المنتسبة إليه، فهل نلوم من طالته يد الإرهاب من الغربيين إذا كرهونا وحقدوا علينا ؟ هل يجوز بعد ما حدث من أعمال إرهابية لهم أن يجأر بعضنا بالشكوى ويتباكى قائلا لماذا يكرهوننا؟

مشاركة :