سنخصص بين وقت وآخر مساحة في “العرب” لمتابعة ونقد الأفلام والمسلسلات المهمة التي تعرضها شبكة “نتفليكس” بعد أن أصبح ما تبثه يثير اهتمام الكثيرين في العالم العربي، ونبدأ هذه المتابعات النقدية بتناول الفيلم الهولندي “بنك المقاومة”. من أفضل ما عرضته مؤخرا شبكة “نتفليكس” الفيلم الهولندي البديع “The Resistance Banker” الذي أجد الترجمة الأفضل له هي “بنك المقاومة”، فهو يقوم على أحداث حقيقية وقعت إبّان الاحتلال النازي لهولندا، ويمكن تلخيصها في إنشاء بنك سري يعمل من خلال الكثير من أساليب التحايل لاختراق البنك المركزي الهولندي الذي كان قد أصبح تحت سيطرة الألمان. هذا البنك السري الذي أنشأه رجال المقاومة من أجل تدبير الأموال، لتمويل حركة المقاومة الهولندية ضد الاحتلال الألماني ومساعدة أسر السجناء السياسيين، والذين دفعوا أرواحهم في سبيل مقاومة الغزو، واليهود الذين فروا واختبأوا خوفا من مصيرهم المنتظر، وكذلك كتمويل إضرابات عمال سكك الحديد التي سببت الشلل لحركة النقل الألمانية، وتمويل طبع الصحف السرية المناهضة للاحتلال التي كانت تنقل أخبار المقاومة يوميا. هذه الأمور جميعها يتم التعبير عنها في الفيلم من خلال دراما متماسكة تقبض على عناصر الموضوع كافة، تتمتع بقصة محبوكة تستغرق ساعتين، في سياق متعرج يتأرجح بين الأزمنة. فالفيلم يبدأ بعد الحرب مباشرة، أي بعد اندحار الاحتلال النازي حيث يجري التحقيق داخل البنك المركزي مع شقيق بطل الفيلم أو مؤسس تلك الشبكة السرية الذي لم يعد موجودا الآن، وهم يسألون الشقيق عن مصير “الأموال”، كم كانت وأين هي الآن؟ وفي “فلاش باك” طويل متقطع، يعود الفيلم إلى القصة من بدايتها، ويرتد بين حين وآخر إلى الزمن الحاضر. الشبكة السرية الفيلم من إخراج الهولندي يورام ليرسن، وقد رشحته هولندا رسميا لتمثيلها في مسابقة الأوسكار لنيل جائزة أفضل فيلم أجنبي، ولا شك أنه من أفضل الأفلام التي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية عن المقاومة ضد النازية في أوروبا. ويعتمد الفيلم على قصة حقيقية تتركز حول شخصية “واللي فان هال” الذي كان موظفا في البنك المركزي الهولندي في أمستردام خلال الحرب العالمية الثانية، وقد انضم إلى صفوف المقاومة ضد الاحتلال الألماني “النازي” وأصبح مسؤولا عن أكبر برنامج سري لتمويل حركة المقاومة باستخدام أساليب التضليل والخداع، بل والتزوير أيضا للحصول على الأموال الحكومية، وأنشأ الرجل شبكة كانت تعمل بكفاءة عالية، في نقل وتوزيع الأموال على آلاف الأشخاص وظلت هذه الشبكة تعمل طويلا دون أن تلفت نظر النازيين وعملائهم في أمستردام. من الطبيعي أن يتضمن فيلم كهذا الكثير من مشاهد التعذيب والإعدام رميا بالرصاص، والانتحار (الأسرة اليهودية التي انتحرت خوفا من المصير القادم)، وكذلك الخيانات والاستجوابات والمفارقات التي تكاد تكشف عن وجود الشبكة السرية، وكيف كان يتم إخفاء كميات كبيرة من الأموال في السراديب والأقبية، ولف حزم الأوراق المالية حول أجساد الرجال، ومشاهد أخرى كثيرة للمطاردات والتعقب والمفاجآت المرعبة. المخرج الهولندي يورام ليرسن ينجح في خلق دراما نابضة بالحياة، تتميز بإيقاع سريع متدفق لاهث، هو إيقاع أفلام التشويق والإثارة، دون ابتذال أو تسطيح، بل في سياق رصينالمخرج الهولندي يورام ليرسن ينجح في خلق دراما نابضة بالحياة، تتميز بإيقاع سريع متدفق لاهث، هو إيقاع أفلام التشويق والإثارة، دون ابتذال أو تسطيح، بل في سياق رصين ينجح المخرج يورام ليرسن (55 سنة) في خلق دراما نابضة بالحياة، تتميز بإيقاع سريع متدفق لاهث، هو إيقاع أفلام “الثريللر” أو التشويق والإثارة، ولكن من دون ابتذال أو تسطيح بل في سياق رصين، وبشخصيات حقيقية من لحم ودم، تأسرك ببساطتها وصدقها، ويتمتع الفيلم بأداء تمثيلي مؤثر من جانب مجموعة الممثلين جميعا يتقدمهم بالطبع بطل الفيلم باري أتسما في الدور الرئيسي في أداء يذكرنا بالممثل الأميركي جيمس وودز. ومن أكثر عناصر الفيلم تميزا صورته البديعة بفضل الخبرة الكبيرة التي يتمتع بها مدير التصوير الهولندي مارك فان أللر، الذي يهتم كثيرا بالإضاءة بحيث تعيد تجسيد الأجواء التي كانت سائدة في أربعينات القرن الماضي، خاصة في المشاهد الليلية البديعة التي تقع في أجواء الشتاء الباردة بأمستردام وضواحيها الريفية، بألوانها البيضاء والزرقاء، مع مسحة خاصة تجعل الفيلم يبدو في الكثير من مشاهده قريبا من “الفيلم- نوار”. ويتميز الفيلم أيضا بموسيقاه التصويرية التي وضعها ميرلين سنيتكر، والتي تبدأ بمزيج من موسيقى البوق النحاسي مع نغمات الكمان والتشيللو على شكل نذير، ثم تتسلل إليها نغمات البيانو تدريجيا لتصنع مزيجا من الترقب والقلق والخوف والتوتر وصولا إلى الذروة. عن الشجاعة والتضحية هناك الكثير من التفاصيل المتعلقة بالعمليات المصرفية المالية وكيف أمكن التلاعب بها، لكنها رغم تعقيدها الظاهري تبدو سلسة ومفهومة، يتم تصويرها من خلال مشاهد “فوتومونتاج” سريعة تتعاقب فيها اللقطات، كما نشاهد أيضا طوال الوقت تبادل الحقائب المليئة بالمال، ثم العمليات الحسابية المعقدة التي يقوم بها فان هال الذي يهجر أسرته ويختفي عن الأنظار في مكان آمن خارج المدينة لكي لا يقع في أيدي الألمان، الذين يبدأون في التشكك أولا في وجود تلك الشبكة السرية، ثم يقبضون على بعض العناصر ويقومون بتعذيبهم تعذيبا شديدا فيحصلون تدريجيا على بعض الاعترافات. هذا فيلم عن الشجاعة والتضحية والتضامن في زمن الحرب، وكذلك عن الخيانات التي تقع إما عن خوف وإما عن رغبة في حماية النفس، وعن ذلك التنسيق الكبير الذي كان قائما بين ممثلي الحكومة الهولندية التي لجأت إلى العمل من لندن بعد سقوط البلاد في قبضة النازيين، وبين الذين بقوا تحت الاحتلال، يتحينون كل فرصة لجعل وجود احتلال بلادهم مستحيلا إلى أن انقضت الحرب. ويصور الفيلم كيف أصبح النازيون يبيعون السجناء مقابل المال، بعد أن أصبح شبح الهزيمة يحلق فوق رؤوسهم. التوازن في البناء يتميز الفيلم بالتوازن الدقيق بين مختلف الأطراف: النازيون وعملاؤهم وبحثهم الشاق عن “المخربين”، رجال المقاومة، ثم فان هال في علاقته بأسرته ثم دوره القيادي كرجل وهب حياته لهزيمة العدو من خلال معرفته العبقرية بطرق الخداع والتلاعب المالي لكي يحصل على ما يبغي، رافضا التراجع أو الاختباء حتى بعد أن تشتد المطاردة لكي ينقذ حياته من الموت، بل ولا يستمع حتى لنصائح شقيقه الذي جاء وقت رفض فيه أن يمضي معه حتى نهاية الطريق مرددا “نحن مصرفيون ولسنا مقاتلين”، غير أنه لا يستمر طويلا على موقفه هذا. موضوع الفيلم جديد تماما، فعلى الرغم من مرور أكثر من 70 عاما على نهاية الحرب العالمية الثانية إلّا أن الكشف عن هذه القصة لم يحدث سوى مؤخرا فقط كما تظهر المعلومات التي تظهر على الشاشة في النهاية، حيث نرى صور أبطال القصة الحقيقية، فقد شاء المسؤولون عن البنك المركزي الهولندي بعد الحرب، الإبقاء على تفاصيل ما وقع سريا حتى لا يسيء إلى سمعة البنك بعد أن تم اختراقه وتزييف عدد كبير من سندات مودعيه، وبالتالي الاستيلاء على أموالهم، ولكن كل هذه الأموال تم تسديدها كما تمت إعادة جميع الشهادات والوثائق الأصلية إلى مكانها بعد الحرب دون أن يلحظ أحد شيئا. ورغم أن الفيلم يصور ببراعة تضامن جميع العناصر من شتى الطبقات الاجتماعية ومن بينهم كبار المسؤولين في البنك، مع رجال المقاومة إلّا أنه ليس من أفلام “الرسالة” أو “الدعاية” التي تتلخص في الإشادة بالحس الوطني وتمجّد النصر على الألمان، فما يجعله فيلما يبقى في الذاكرة، أسلوب مخرجه وحنكته وبراعة بنائه السينمائي، ونجاحه في تحقيق متعة المشاهدة التي من دونها لا تكون السينما سينما، ولا يكون الفيلم فيلما.
مشاركة :