اختفى الفلسطينيّون. اختفى العرب. استيقظَت تل أبيب ولم تجدهم. بحثوا عنهم، نشروا القوّات الأمنيّة، جمعوا المعلومات من الأجهزة، تتبّعوا أشرطة الفيديو من الطرقات ولم يجدوهم. أين ذهبوا؟ ماذا يحضّرون؟ أهو انقلاب؟ أهو إضراب؟ أهي الحرب؟ أين اختبأوا؟... لا ندري، فابتسام عازم الصحافيّة والروائيّة الفلسطينيّة لم تطلع قارئها على سرّ اختفاء العرب في روايتها «سفر الاختفاء» الصادرة عن منشورات الجمل (2014): «العرب اختفوا! ببساطة اختفوا. لم يظهر أيّ منهم في مكان عمله. بيوتهم خالية، هواتفهم ترن ولا أحد يجيب، لا العمال، ولا المتسولون، ولا السجناء، ولا المدرسون، ولا المرضى ولا أصحاب المقاهي ولا الطباخون ولا الزبالون... جميعهم اختفوووووووا.» (ص 63) ذكربات البشر والمكان جعلَت ابتسام عازم في روايتها سفرًا جديدًا يُضاف إلى أسفار العهد القديم. فمن بعد سفر التكوين وسفر الخروج وبقيّة الأسفار المتعارف عليها، يأتي سفر روائيّ جديد هو «سفر الاختفاء»، السفر الذي يختفي فيه العرب ويستيقظ الإسرائيليّون ليجدوا أنفسهم وحدهم في البلاد. سفر جديد، غريب، غير متوقّع في نحو مئتين وأربعين صفحة، مزيج أنيق ومتوهّج من الحنان والألم والحزن والبحث عن الماضي والذكريات، ذكريات البشر والمكان. والمكان يحتلّ مكانة رفيعة في الفضاء الروائي، فالأرض مقسومة بين العرب والإسرائيليّين، والمكان الروائي والفعلي لا ينتمي إلى أيٍّ منهما ويخرج من إطار المحدود ليشرق في الذاكرة المشتركة لكلّ من مرّ به. فينسلّ المكان من بين يديّ جبهة واحدة مسيطرة، ليتحوّل إلى مشاركة بين شعبين، مشاركة على كل الصعد، حتى على صعيد الأسماء واللغة. فيافا، وتل أبيب، والقطاع، والسامرة، أسماء مدن منها ما اختاره واستعمله العرب ومنها ما اختاره ويستعمله الإسرائيليّون ليثبتوا ملكيّتهم، ليصبح تغيير الاسم وسيلة نقل الملكيّة وانتقال ميزان القوى وإثبات الحقّ بالسيطرة. حتّى اللغة المحكيّة تعكس شبكة العلاقات التي ولدت بين شقّي المجتمع الغريب الذي ولد بحكم الظروف التاريخيّة فنقع في النصّ على كلام بالعربيّة وكلام بالعبريّة، ونجد العرب يتعلّمون العبريّة والإسرائيليّين يتعلّمون العربيّة. فيشترك الشعبان بالأسماء وباللغة وبالرغبة في السيطرة على المكان وعلى ذاكرته، يشتركان بحبّهما لأرض جعلت منهما كليهما أفرادًا يتامى، خائفين دومًا من الموت أو الحرب هم الذين لم يتعلّموا يومًا كيف يعيشون حياةً هادئة: «لعلّنا عندما نولد في بلد كهذا على سرير من النكبات نبحث دائمًا عن قصص مثيرة للنجاة أو الموت أو الحياة. لأن القصص العادية تصبح شيئًا لا يشبهنا. لم نعد نرانا في قصصنا». (ص107) ويبقى المكان، فلسطين أو إسرائيل، ذلك المكان الأبديّ الذي مرّت به الأجيال، شاهدًا مشتركًا يبثّ الحبّ والحزن والحسرة على ماضي جميع أهله. الأرض التي انتمَت إلى شعبٍ بقيت في ذاكرته وبقي حبّه لها وتعلّقه بها، والشعب الجديد الذي احتلّها، راح هو الآخر ينسج ذاكرته معها وحولها. فاشترك الشعبان في رواية عازم بحبّهما ورغبتهما في امتلاك المكان، ولكنّها في هذه الرواية رغبة وجدانيّة انسانيّة رقيقة لشعبين مختلفين محكومين بالعيش معًا يرى كلٌّ منهما أنّه أحقّ بالوجود. وتولّدت حكمًا صداقات بين أفراد المجتمع العالق بين فئتيه: الإسرائيليّون المحتلّون، والسكّان الفلسطينيّون القدامى الذين رفضوا الرحيل، الفلسطينيّون الناجون، من دون أن يغيّر ذلك واقع الاختلاف والعداء والنزاع فالـ «نحن» ما زالت متعارضة مع الـ «هم» أو الـ «أنتم»، والعرب ما زلوا يحدّثون الإسرائيليّين ككتلة لا بدّ من أن يأتي يوم وتدرك فيه حجم خطئها وترحل: «متى تريد أن تفهم أنّ تل أبيب هي الكذبة التي صدقها الجميع... هذه الكذبة التي أردتم تصديقها لا تعطيكم الحقّ في قتلنا وتشريدنا». (ص 180.) كلٌّ يدافع عن قضيّته، عن حقّه بالوجود، وفجأة يختفي العرب! قصص لم تكتمل وللشخصيّات ذاكرتها. ذاكرة الطفولة والمراهقة وقصص الحب التي لم تكتمل، قصص جميلة صافية، قصص تقرّب القارئ من واقع مجتمع تألّف على حين غرّة وراح يبحث عن قصص يهرب إليها: «يبدو لي أنّ أجمل القصص هي تلك التي نخترعها. هي أكثرها روعة ورعبًا. ما نعيشه مبتور، حتى ما عشته أنا مبتور في الذاكرة.» (ص 96) كلّ قصص الشخصيّات ناقصة أو في حاجة إلى قصص شخص آخر ليكملها، الحبّ نفسه شبه غائب عن حياة الشخصيّات كلّها، قصص حب الشباب يُحكم عليها بالفشل لرغبة أحد طرفيها في مغادرة أرض النكبات، حتّى قصص المتزوجين غير مكتملة. فالجدّة مثلاً رحل زوجها عنها إلى لبنان وبقيت وحدها في فلسطين، أمّا الوالد في أغلب الأحيان فإمّا توفي في القتال وإمّا انتحر من بؤس العيش. قصص ناقصة، تسكن الذاكرة وتجسّد هشاشتها وتفرُّدَها في رؤية الواقع على الورق. كلٌّ يرى الحياة من منظاره، من خلال قصصه، من خلال ذاكرته. فذاكرة علاء الشاب الفلسطيني الذي نقرأ دفتر مذكّراته ونسمع حديثه مع جدّته من على الورق تمثّل يافا خاصّة به نعيشها معه ونعشقها من خلال عينيه. فنرى يافا، يافا عتيقة، نشمّ رائحة ياسمينها ونستيقظ صباحًا على هوائها، يافا الناجين، الفلسطينيّين الذين ظلّوا في فلسطين ورفضوا ترك بيوتهم وأزهارهم وروائح قهوة بلادهم، يافا اليتامى الذين بقوا وحدهم بلا أهل، بلا عطر كلماتهم وضحكاتهم. ونتعرّف إلى يافا ذاكرة الجدّة، جدّة علاء، تلك المرأة الطافحة بالحياة والفرح والمتمتّعة بمزايا المرأة الفلسطينيّة القويّة المتماسكة المناضلة التي رفضت ترك بيتها ومدينتها على رغم رحيل عائلتها وزوجها إلى بلاد عربيّة مجاورة عند وقوع النكبة. وكذلك نجد ذاكرة الشاب الإسرائيلي أريئيل التي لها دورها وأهمّيتها في الرواية، فأريئيل صديق علاء يترك شيئًا من ذاته على صفحات ابتسام عازم، يخبر قصّته وقصّة والده الذي وقعَت طائرته فوق لبنان ومات فيها ولم يحصلوا على جثّته لدفنها. وما يمنح القيمة إلى رواية عازم هو أنّها عندما تتناول الوضع في يافا والعلاقة بين الإسرائيليّين والعرب، تتناوله بإنسانيّة، وثقة محايدة، وقدرة على التحليل، وتقدير وجع الطرفين، من دون الانزلاق إلى معجم المفردات المنحاز والمتعصّب سياسيًّا. «سفر الاختفاء»، رواية ابتسام عازم الفاتنة، رواية جميلة رقيقة ثاقبة ذات لغة جذلة متماسكة، وقد جمعت عازم الغريبَ إلى الواقع، وغير المتوقّع إلى ألم شعبٍ ظُلِم وشعبٍ يظلم لظُلمٍ ناله في الماضي، لتبقى حالة وحيدة واحدة مسيطرة على مجرى السرد، حالة تشعّ من وجوه الشخصيّات وقصصهم، حالة اليتم والوحدة. فالذين بقوا في فلسطين، الناجون، هم وحيدون، وتتكرّر هذه العبارة أكثر من أربع مرّات في سياق السرد، فشيءٌ ما في الناجين يجعلهم وحيدين، يعزلهم عن غيرهم ويسجنهم في قصصهم ويحوّلهم إلى أيتام الزمان والمكان والذاكرة: «أنا بتّ أؤمن كلّ الإيمان أن من بقي في فلسطين هم المصابون بضرب من ضروب الجنون. وإلا كيف يمكن لهم أن يستحملوا ذاكرة الناجين وذاكرة الذين لم ينجوا؟ كيف يمكنهم أن يعيشوا مع هذا الألم في الذاكرة، ذاكرة الناجين؟... إنّ اليتم هو البقاء في فلسطين بعد النكبة. اليتم هو البقاء في يافا». (ص 189)
مشاركة :