لم تمضِ دقائق على سماعي للخبر المفجع، بصوتها الحيادي عبر الهاتف "ماما لقد تطلقت". حتى تخلصت من حالة الذهول والكآبة التي عششت في روحي، ونسجت خيوطاً عنكبوتية حول تفكيري، وغرقتُ في ضحك هستيري، جعل الصحوة تغسلني في لحظات، فأبدو مبللة بالدهشة حتى العظم! تساءلتُ من خلال دهشتي "أهي مصادفة أخرى؟ أم أنها تصاريف قدر يرسم خطواتنا، وكأننا امرأة واحدة في جسدين؟ اقتنعتُ دائماً أنها لا تشبهني، فمنذ ولادتها وحتى اللحظة التي رفضت أن تجلس أمامي لتناقشني بهدوء في قرار زواجها، كنت أرى فيها ملامح والدها، حياده، قسوته، لا مبالاته، وأنانيته. فلماذا تريد الآن أن تصبح نسخة مني، وتحمّلني قدرها؟ أهو خيارها؟ أم حظي الذي يضع العصا في العجلات، ويرميني - بعد كل نهوض - في هاوية جديدة؟ حاولت احتواء الأزمة لأخرج منها بأقل خسائر ممكنة، لكنّ الأفق كان مسدوداً بالرّماد. كالعادة، تحاملت على خيبتي، ولم أترك لنفسي فرصة التفكير فيما أفعله. خلال دقائق كنت أقود سيارتي تجاه دمشق.. أوّل ما خطر لي أن أواجه العاصفة بفتح عيني جيداً، كي لا يصرعني الألم، ويربكني التفكير والاحتمالات الغامضة. وعلى موعدي الدّائم، وصلتها في صباح سديمي، محمّل بالغيوم الرمادية. يحملني صوت فيروز - في هذه اللحظات - قطرة مطر حائرة على إسفلت قذر، تتناوشه أكياس النايلون الفارغة بدفع الريح العنيفة. على الرغم من الدفء المنبعث مع صوتها "نسمت من صوب سوريا الجنوب، قلت هل المشتهى، وافي الحبيب". أغلقت المسجل، لم أكن في حالة تسمح لي بالاقتراب من خط النشوة ذاك، الذي تربكني فيه الكلمات الممزوجة بحنين لا يتوقف، يجرفني كسيل، ويعيدني إلى البحر، أغص بعطشي، وتتشقق حنجرتي بحثاً عن الماء!. لم يبقَ سوى صوت الرّيح تهرُ أشجار الشوارع، وتهاجم مظلات النّاس، لتنتزعها بقوة، وترميها بعيداً، وتضحك بسخرية من المشهد الشاحب لوجوه مكفهرة، مرتبكة، تحاول أن تسيطر على مشاعر الاستياء، بمزيد من الغموض واللامبالاة! لم يشغلني المشهد طويلاً، فقد وصلت البيت، وكما توقعت، لم أجدها هناك! فتحت لي خادمتها الفلبينية، وأخبرتني، أن سيدتها خرجت في الصباح الباكر قبل ذهاب الصغير إلى المدرسة. دخلت غرفتي، كل شيء كما تركته منذ شهرين، لم تمسسه يدها في غيابي. طلبتُ فنجان قهوة، وتناولت الريشة من وعاء الرسم، كانت رطبة، مما أثار استغرابي. اعتذرت الشابة الفلبينية وقد فهمت الموقف، بأنّ الصغير لعب بأدواتي، وأنّ سيدتها طلبت منها تنظيفها هذا الصباح، لأنها توقعت حضوري. هكذا إذن؟..
مشاركة :