العقل العربي ما بعد اغتيال الربيع

  • 1/15/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

حتّى اللحظة لم تنطلق فصول دراسات تأمل عميقة لسجل ما بعد الربيع العربي، وخاصة بعد تبيّن دخوله في مرحلة الاغتيال بعد الحصار، وهذا مفهوم من زاوية أن بعض بلدانه لا تزال تصارع لتحقيق سكة طريق للعودة لمفاهيم الإجماع التي طرحها والتي اتضح أنها مدار خلاف لدى بعض الأطياف الثقافية التي تبنت الدعم النضالي أو الثقافي للربيع العربي، وحتّى تسميته من انتفاضة الى ثورة يدور عليها جدل وإن كان في الواقع قد تأرجح بين هذه وتلك ولكنها لم تكتمل في أيِ من بلدانه. ومع أن الرأي الذي يطرحه بعض المفكرين، له وجاهة من أن قياس الثورات يحتاج الى فترة زمنية تقطع بتقدير نهايتها أو نجاحها بعد مخاض عصيب، إلّا أن ذلك لا يعني عدم تسجيل ظواهر قد استقرت على الأرض وإشكاليات في واقع الرأي العام العربي ومثقفيه كانت ضمن سياقات الفشل الذي هيأ لاغتيال هذا الربيع، والخروج من العاطفة المضطربة أحد اهم أولويات تنظيم العقل العربي الذي نكتب اليوم في محاولة لتسجيل عناوين أولية له لإعادة الفهم والتقييم. كما أنّ هذا الاعتراف بالاغتيال لا يعني أنّ دورات الكفاح السياسي والنضال الحقوقي قد انتهت وأنها لن تُسفر عن شيء في ضحى الغدِ، فهذا مرده الى شركاء هذه الثورات أو الانتفاضات أو من يخلفهم في مستقبل الأيام، إنما القصد أن هذه الدورة التي عاشها الوطن العربي من حركة احتجاجات سلمية سعت الى صناعة عهد جديد لإنسانيتها وهويتها، تحت نظام حكم عادل، قد انتهت دورتها ودخلت في مراحل صراع وتعقّب شرس، كما أن من أضطر لحمل السلاح فيها دخل بدوره الى مرحلة تيه خطيرة لا يُدرى الى أين ستأخذه وكم سينزف وطنها وإنسانها حتى تتوقف. تيهٌ صنع مشروعه الحلف الإقليمي الشرس في الشرق الأوسط ومكّن له بعض خطايا الثوّار وثقافة الرأي العام، وإشكاليات الصراع الأيدلوجي العميق لتيارات الثقافة العربية، وهناك محاولات للخروج من هذا التيه والعودة لسكة التنظيم الثوري الاجتماعي الوطني، كما هو في الحالة السورية، وتيه يغزل لنفسه الفخ تلو الفخ وقد كانت إمكاناته أكبر كثيراً من سوريا كما هو في الحالة الليبية، لكنّ المهم العودة الى تسجيل ما يمكن أن يُصنّف حقائق تحتاج أن تفرد لتنظيم العقل العربي لفهم ما جرى من الربيع الى جحيم الحلفاء. إن أوّل درس واضح لحركة الاغتيال هو أن الحلف الإقليمي الشرس عربيا وإيرانيا وإسرائيليا بكل قوته من السياسة والمحاور الأمنية والقدرة النفطية، اتحد بقوة لمواجهة هذا الربيع، وما يجري من ملاعنات بين بعضهم البعض لا يُغيّر من حقيقة الواقع الذي أُنتج بتوافقاتهم الضخمة لخنق الربيع العربي، وهنا سؤال مهم هل كان دور الإقليم تابع للمحور الدولي أم شريك معه في موسكو وواشنطن، أم العكس، وهو أن فعل الإقليم وقراره الشرس شجّع الغرب والشرق الروسي والصيني على مباركة ودعم حركة اغتيال الربيع، وانزوى الغرب بخطاب منافق خضع بعده لخلق فرص مصالحه على جثمان الربيع، فهنا واضح أن شراسة قرار الإقليم كانت مركز رغم اختلاف التجارب السابقة. إن السؤال الثاني في هذا الصدد، هو من أين يُستدرك الرأي ويُعرف الموقف من الحصيلة لهذا الاغتيال، هل هو من منائح إدانة العدو والخصم الشرس، هل في أصل نظريات الكفاح أو مفاهيم الخلاص والنهضة من أي بأس يقام على الشعوب هي ملاومة الجلّاد أو مؤسسة الحكم أو التحالفات التي تُستثمر بتغييب الشعوب وتعيش الخشية من حريّتهم، هل من جدوى في ملاومة هؤلاء؟ أم التصحيح عبر وسائط الكفاح كيف تُنفّذ وتَعبر وتستقر لضمان النجاح والسلامة بأقصى قدر ممكن لمشروعها. لعل هذا السؤال هو الأصعب وهو الذي يحتاج كل طيف ثقافي عربي مؤمن بمشروع حرية حقيقي سيظل نسبيا في ولادته، أن يُناقش ذاته فيه، ولذلك فإن منائح الإسلاميين على خصومهم لن تُقدم لهم تصوّرا يعطي فهماً لما جرى ويؤسس لمستقبل، ومعلوم انهم أكبر ضحايا الاغتيال لأنهم قاعدة مناضليه الأكثر حضوراً وتأثيراً، غير أن الموقف لهم وللآخرين هو أين تمكّن الاغتيال من العبور في أخطائهم وأخطاء العلمانيين الذين استدرجوا في مصر وليبيا وغيرها. أي أن هذه الحسابات للتيارات العربية استعجلت بأساً شرساً على بلدانها وشعوبها، كان مجال تجنبه ممكنا سياسيا ولكن حملتها العنيفة على الإسلاميين ساهمت في الاغتيال، وإنما الحديث هنا عمن يحمل مبدأً من العلمانيين وليس الذي تحوّل لطائفة منفصلة عن الشعب ترى زاوية مصالحها مع صفقات النظام القديم لا العدالة الدستورية. إن مساحة أهمية هذا السؤال في الجانب الإسلامي ممتدة، فمن الواضح أن الاتكاء على ملاعنة الحلف الإقليمي الشرس الذي لن يُنقذ ما تبقى من ضحايا ولن يُعيد الانصاف والمحاكمة العادلة لمن مضى لا يزال قائماً، فالحالة المصرية لا تزال صورة مشروع المعارضة للإخوان يستقدم ذات التفكير الذي استدرجهم للهاوية وحتى بعد اتضاح أن قضية الحسم الدموي كانت هدفاً تم توسيعه عبر استدراج التعاطف المشحون دون أي نظرات للتوازن العقلي. وحاجتهم لإعادة رسم تصوّر لا يقوم على ظرف ودعم اعلامي أُتيح أمس وخنق اليوم، وإنما الخروج من كل الصندوق الذي تسبب في تمكين الخصوم بصناعة أرضية جديدة كلياً، فتُعلن بدء اخوان مصر مرحلة صناعة الفكر والسياسة في الشأن العام بعيدا عن الهيمنة التربوية والعمل الخيري المحتاج اليه روحيا واجتماعيا، لكن ليس عبر توظيفه السياسي، وهو ما يتطلب أرضية تحتاج الى زمن والى اعتراف قاس وانسحاب من تكرار الفشل بقرار شجاع. مفاصل هذا السؤال ضمن محاولة ترتيب العقل العربي كثيرة وممتدة، ولكن هناك عناوين أخرى للعودة لقراءة هذا السجل بآماله وأحزانه، والعودة لا تقتضي وقف التفكير والنضال العربي للخلاص لكنه التقدير المهم لحجم الخطوات الممكنة وإعادة تأهيل الوعي السياسي للتقدم بالفكرة أمام الضمير لاتقاء تضحيات عظيمة لن تُعيدها أسطر التاريخ. كما أن المراهنة والمبالغة على مشاعر الرأي العام وتعاطفه، اتضح عدم دقتها فقد يصوّت للإصلاح الخلاصي يوما ويصوت لأي خلاص مزعوم بأيدي الاستبداد في باقي الزمان وهو ما يحتاج الى وقت لزراعة الوعي فيه، ويبقى أن للفكر الإسلامي المعاصر رحلة المراجعة الخاصة التي تحتاج صراحة عميقة وجراحة صعبة، كونه يحمل رسالة البلاغ الكبرى. الوطن القطرية

مشاركة :