مجزرة «شارلي إيبدو» والرقابة الذاتية: المسلمون في أوروبا أمام استحقاق مختلف

  • 1/16/2015
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

تمثل رد فعل الإعلام الأوروبي على فظاعة مجزرة «شارلي إيبدو» بالتضامن مع الضحايا، والدفاع عن حرية التعبير والتصدي للإرهابيين. وقال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في هذا الصدد: «إن الجمهورية برمتها تعرضت اليوم للهجوم»، مضيفاً أن «الجمهورية هي حرية التعبير». إلى ذلك، كثر عدد المعلقين الذين تصدوا للهجمات الإرهابية، وتحدوا عنفها وأصروا على مواصلة تقويم حرية التعبير، بصفتها من الدعائم الأساسية لسلطة القانون. وخير مثال على ذلك الرسوم الكاريكاتورية الكثيرة التي نُشرَت في أعقاب هجوم باريس، حيث كان القلم يتصدى لرشاش كلاشنيكوف. وورد في افتتاحية صحيفة «إندبندنت» البريطانية كلام يفيد «بأن مقتل فريق عمل شارلي إيبدو هو تهجم على حرية التعبير، من الضروري أن تقاومه جميع أجهزة الصحافة». وقد تهافتت جهات عدة للدفاع عن المجلة الفرنسية الساخرة وعن حقها بالتهكم والهجاء، حتى أن مجموعة «غوغل» – عملاقة الإنترنت، التي تُعتَبر الجهة المنافسة الكبرى لوسائل الإعلام المطبوع – هرعت للتضامن مع المجلة، وقدمت مساعدات بقيمة 250 ألف يورو لهذه الغاية. بيد أنه لم يتضح بعد ما إذا كانت حرية التعبير ستخرج سليمة من محنتها هذه من دون أية عواقب. فإذا نظرنا إلى سلوك الصحف حول العالم، في ما تقول أنها ستتصدى للإرهابيين وهجماتهم، في رأينا أنها في الواقع لم تتصدَ لهم على الإطلاق. وعلى رغم مواقف التحدي الصادرة عن كتاب الافتتاحيات، لم يتمادَ أي محرر في أكثر من إعلان التضامن. سبق للخوف أن بدأ ينتابنا. فبعد هجوم «شارلي إيبدو»، سيعمل الرسامون الكاريكاتوريون من دون أن يغيب الهجوم عن بالهم، لا سيما متى تناولوا مواضيع مثيرة للجدل. ولا شك في أن أفضل من عبر عن هذا الخوف هو باتريك شابات من «نيويورك تايمز»، الذي وضع رسماً كاريكاتورياً في عنوان «بعد «شارلي إيبدو»، يظهر فيه رسام كاريكاتوري جالس إلى مكتبه، وقد خطرت له فكرة تكسوها الدماء. يرافقنا الخوف منذ عقد من الزمن وحتى الآن، إلا أن فريق «شارلي إيبدو» كان يتحداه، مع الإشارة إلى أن الصحيفة الدنماركية «يولاندس بوستن» التي كانت أصدرت في أيلول (سبتمبر) 2005 اثني عشر رسماً كاريكاتورياً أثارت تظاهرات في عدد من الدول الإسلامية، قررت عدم نشر رسوم «شارلي إيبدو» الكاريكاتورية. وأوردت قائلة في هذا الصدد: «إن ذلك يُظهر أن العنف يعطي مفعولاً» ومن ثم تابعت قائلة: «إننا نعيش في الخوف من الهجمات الإرهابية منذ تسع سنوات، ما يفسر سبب عدم إعادة نشرنا للرسوم الكاريكاتورية، أكانت رسومنا أو رسوم «شارلي إيبدو». وقد ورد في إحدى افتتاحيات الصحيفة المذكورة: «نحن ندرك أيضاً أننا نذعن للعنف والترهيب». أما الأمر الملموس الذي نستنتجه من هذه الملاحظة، فهو أن القوانين الفرنسية، وفي شكل عام القوانين الأوروبية، ما عادت تنطبق على أرض الواقع في بعض المجالات. ففي أوروبا، قد يُصدر أحدهم ملاحظات تجديفية بحق مختلف الأديان، بما يشمل أديان الغالبية المحلية، ولكن يمتنع عن إصدار ملاحظات تُعتبر تجديفية بحق الإسلام. أي أننا نستحدث، بمعنى آخر، مرجعين قانونيين مزدوجين، يتبع أحدهما القوانين العلمانية القائمة في فرنسا ودول أوروبية أخرى، في حين يبقى الثاني محكوماً من القوانين الإسلامية التي تلقى تفسيراً سلفياً جهادياً، يحكم فيها على كل فعل يُعتبَر تجديفياً بحق الدين بعقوبة الموت. لقد نجحت الرسوم الكاريكاتورية في بلورة نقاش مجتمعي أكثر عمقاً ضمن سياقين، أحدهما أوروبي والثاني عالمي. وفي أوروبا، تعاني المجتمعات الوافدة من دول ذي أصول إسلامية مجموعة من المشاكل الاقتصادية – الاجتماعية، حتى أننا أصبحنا نرصد مساحات اجتماعية في أوروبا تغيب فيها السلطات والمؤسسات الجمهورية وقيمها. واليوم، وعلى خلفية الهجمات الصادمة، ثمة خطر كبير بأن يصبح النقاش رهينة مجموعة متنوعة من التوجهات القومية الأوروبية، ولا يكفي أن نناشد بعدم استحداث «مزج» بين الجهاديين الذين صمموا أنفسهم بأنفسهم وبين المجتمعات الإسلامية الجذور الأوسع نطاقاً. ويتحول هذا الخوف إلى رقابة تتسبب بوضع المسائل الحساسة والمثيرة للجدل جانباً، من دون أن يقتصر ذلك على مظهرها المرئي. ويشار إلى أن الخطاب المقبول سياسياً أفسح مجالاً شاسعاً أمام تطور خطاب آخر إما يبرر الهجمات («ما كان عليهم إصدار رسوم كاريكاتورية من هذا القبيل»، «لقد سبق أن تم تحذيرهم مرة»، إلخ...) أو يسمح بصدور آراء مناهضة للإمبريالية والاستعمار (مع تذكر الحرب الفرنسية في الجزائر لشرح الأحداث الجارية، علماً أنها حرب انتهت في عام 1962)، أو حتى نظريات مؤامرة صريحة تُصور «مؤامرة أميركية وصهيونية» هدفها تقسيم فرنسا وإضعاف أوروبا. السياسة والإرهاب أثناء تنفيذ الهجوم في باريس، رحت أتساءل عن الهدف السياسي المحتمل لهجوم من هذا القبيل، وعن مصلحة مجموعة مسلحة على مسافة آلاف الكيلومترات – «القاعدة» في اليمن - من تبني مسؤولية هجوم ضد مجلة غامضة تصدر عنها 60 ألف نسخة وتنشر رسوماً كاريكاتورية بلغة أجنبية؟ يخوض تنظيم «القاعدة» في اليمن أصلاً حرباً ضد عدد من أتباع ديانته وجيرانه. فما الداعي إذاً ليشن هجوماً على دولة أجنبية؟ وما دافعه لذلك؟ أي غايات كان يأمل تحقيقها عبر شن هجوم من هذا القبيل؟ وما التداعيات المحتملة لهجوم كهذا على السياسة الخارجية الفرنسية والصراعات المعقدة التي تتواصل في الشرق الأوسط؟ تذكرت نفسي منذ بضع سنوات، عندما كنتُ أجري بحثاً عن المتطوعين الجهاديين في وادي البقاع اللبناني الذين انضموا إلى شبكة الزرقاوي في العراق. وفي فترة لاحقة، حدثني الشخص الذي سهل عملية تواصلي مع هؤلاء الجهاديين عن عدم النضوج السياسي لهذه المجموعات، فقال: «إن مشكلتهم هي أنهم لا يقرأون الصحف». فهل صحيح أن المجموعات الجهادية عاجزة عن قراءة التداعيات السياسية لجرائمها العنيفة؟ إذا كان الجهاديون أنفسهم عاجزين عن صوغ مطالب سياسية واضحة مقابل أفعالهم، فمن الضروري أن يتمكن المحللون من إدراك تداعيات أعمال العنف التي يرتكبونها، والتفسير الوحيد الذي يمكنني أن أعطيه هو أن مختلف المجموعات السلفية - الجهادية المتنافسة، ومن بينها «القاعدة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام»، تحتاج إلى شن هجمات دراماتيكية من شأنها أن تستقطب انتباه وسائل الإعلام إليها، وذلك لتعزيز مشروعيتها في سياق المنافسة بين الجهاديين التي تعتمد هذا المنطق بالتحديد. ويتصور المقاتلون الجهاديون المقبلون من المجتمعات المهاجرة إلى أوروبا، أنهم في حالة حرب ضد «الصليبيين واليهود»، مع أنهم ليسوا كذلك، فهم يحاربون الدولة العلمانية وقوانينها، مع الإشارة إلى أن القوى التي ستبرز، في حال بقيت الهجمات الجهادية تستفز الرأي العام، لن تكون أشبه بقوى أصولية دينية أوروبية، بل أكثر بقوى قومية يمينية متطرفة. ومنذ الآن، تشير التوقعات إلى فوز حزب «الجبهة الوطنية» في فرنسا في أعقاب هجمات «شارلي إيبدو». فيا لسخرية التاريخ، حيث نرى أن التضحية بمجموعة صحافيين عملوا على نقل الثقافة السياسية لحركة العام 1968 ستغذي القومية واليمين المتطرف في فرنسا! إن لم يكن الجهاديون معتادين قراءة الصحف، فلا شك في أن التاريخ لن يكون، بالتالي، شغلهم الشاغل. والواقع أن النظام السياسي والقانوني الأوروبي هش، وقد نشأ من اثنين من أبشع الصراعات في تاريخ البشرية. وقد مرت للتو الذكرى المئوية لبداية الحرب العالمية الأولى، مع أن الإعلام العربي أو التركي بالكاد تذكرها. ويشار إلى أن الجهاديين، بجهلهم وعنفهم العشوائي، يوقظون أكثر القوى السياسية خطورةً وإجراماً على الإطلاق، تاركين المجتمعات المهاجرة إلى أوروبا رهينةً بين أيديها. واليوم، بات نجاح السلفيين الجهاديين بين الشبان المقبلين من المجتمعات المهاجرة بالمقارنة أكبر بكثير من نجاحهم خلال هجمات أيلول 2001 مثلاً، إذ إن قسماً كبيراً من هؤلاء الشبان يتأثر بالمبررات الجهادية، ويعتبر الهجمات، كتلك التي شهدتها باريس، مشروعة. وفي الشرق الأوسط أيضاً، ينتشر التأثير السياسي السلفي الجهادي، بعد أن كان محصوراً، في عام 2001، بالمناطق القبلية في أفغانستان وباكستان. واليوم، دخل هذا التأثير إلى قلب العالم العربي الإسلامي، وإلى الدول المجاورة لأوروبا، أي العراق، وسورية، واليمن، وليبيا، وغيرها. وتواجه مجتمعات المهاجرين من أصول عربية وإسلامية عدداً من المشاكل في أوروبا، من بينها التمييز، والعزلة والوطأة الكاملة للأزمة الاقتصادية. أما الحل، فيكمن في تطوير سبل الكفاح الضرورية التي يوفرها كل من النظام القانوني والثقافة السياسية. وعندما قرر كابو، وشارب، ووولينسكي، وهونوري، وتينوس وآخرون نشر عدد «شريعة إيبدو»، برروا قرارهم بالقول إنهم ينصاعون للقوانين الفرنسية، وليس للشريعة الإسلامية، ما يعطيهم الحق بممارسة سخريتهم. بالتالي، من الضروري أن يقر قادة المجتمع العربي الإسلامي المقيمون في أوروبا بوعي أي نظام قانوني سيعتمدون، فإما يختارون القوانين الجمهورية في فرنسا، أو قوانين «القاعدة» في اليمن. وليست المهمة سهلة، ولكنها حتماً ضرورية اليوم، في حال أردنا أن نتجنب جميعاً الوقوع رهائن بين أيادي التكفيريين، والهروب من القومية المتزايدة في أوروبا، علماً أن خوفنا المتنامي والرقابة لن يساعدانا على الإطلاق.

مشاركة :