«بل آمي» لغي دي موباسان: عالم الصحافة تحت مجهر الأدب

  • 1/17/2015
  • 00:00
  • 27
  • 0
  • 0
news-picture

بقصصه القصيرة على الأقل، كان الكاتب الفرنسي غي دي موباسان، يعتبر سيداً من سادة الكتابة الواقعية، حتى وإن كان بعض أعماله يمت بصلة نسب قوية إلى الأدب الغرائبي، مثل روايته «لا هورلا» التي تُحسب في خانة أكثر الروايات غرائبية في أدب القرن التاسع عشر الفرنسي. وأعمال غي دي موباسان، الواقعية في مجال القصة القصيرة، كانت، في الحقيقة، في خلفية جزء كبير من الإبداع العربي، مثلاً في مجال هذا الفن، إذ نعرف أن مبدعين كثراً من عتاة القصة القصيرة في الأدب العربي، لا سيما خلال النصف الأول من القرن العشرين، ساروا في كتابتهم على منوال دي موباسان، وقلدوه إذ ترجم الى العربية على صفحات الصحف والمجلات، بل اقتبسوا منه أحياناً بعض أعماله وسجلوه بأسمائهم. طبعاً، ليس هنا المجال للبحث في مثل هذه الأمور، ولكن ما ذكرناه إنما يأتي في سياق الحديث عن كاتب كان كبير الشعبية في زمنه والأزمان التي تلته، حتى وإن كان يبدو الآن منسياً بعض الشيء، أو يصعب على كثر من النقاد إدراجه في خانة كبار الروائيين الحداثيين. فموباسان، بعد كل شيء، كان ذا نزعة طبيعية - واقعية تتأرجح بين بلزاك وإميل زولا، تماماً كما كان ذا نزعة غرائبية تبدو قريبة من النهج الذي سار عليه مواطنه جيرار دي نرفال، في كتبه الأكثر غرابة. > وإذا كانت رواية دي موباسان، «لا هورلا» تعتبر شعبياً ومن جانب النقاد، العمل الأشهر بين أعماله، فإن المقام الأول في هذه الأعمال يظل محفوظاً للقصة القصيرة، بحيث إن دي موباسان، يعتبر سيداً حقيقياً من سادة القصة القصيرة، بأكثر مما يبدو سيداً من سادة الروائيين، سواء كانت هذه الرواية طبيعية، واقعية، أو غرائبية. مع هذا، هناك رواية لغي دي موباسان، تظل الأكثر والأقوى بين أعماله، خصوصاً أنها ساهمت في زمنها في تأسيس ما يمكن أن يعتبر أدب الإدانة الاجتماعية. فهذه الرواية تدور أحداثها في أجواء الصحافة والعلاقة بين الإعلام والمجتمع، من ناحية، والإعلام والسياسة من ناحية أخرى، في فرنسا التي كانت عودتها إلى الديموقراطية في ذلك الحين خلقت الكثير من مستويات التعاطي مع الصحافة وسط بيئة - باريسية على وجه الخصوص - كانت منفتحة أمام شتى أنواع السجالات. > طبعاً، لا نعني بهذا أن الرواية، وهي «بل آمي»، هي رواية عن الصحافة، كما تجلى هذا النوع الروائي في القرن العشرين، في الأدب أو في السينما (فيلم «المواطن كين» لأورسون ويلز، مثلاً)، لكننا نعني أنها كانت واحدة من أولى الروايات التي تجعل من عالم الصحافة إطارها العام، من دون أي تبجيل لهذا العالم، ولكن من دون أية إدانة مطلقة له كذلك... دي موباسان كان يسعى من خلال روايته هذه إلى رسم صورة لعالم يعرفه جيداً. قد يكون في الصورة شيء من الإدانة والفضح، وقد يكون في خلفيتها شيء من الوعظ، ولكن في الأحوال كافة، لم يكن الفضح أو الوعظ هدفها الأساسي، ولا حتى الإدانة. بل إن الهدف كان، وعلى غرار ما يحدث عادة في أدب غي دي موباسان، متعلقاً بوضع شخصيات في إطار زماني ومكاني محدد، لدراسة سيكولوجية هذه الشخصيات وسلوكها في سياق اجتماعي وأخلاقي في آن واحد. > والشخصية الأساسية التي يصفها دي موباسان في هذا السياق هنا، هي شخصية الشاب جورج دوروا الذي يصل إلى باريس خلال تلك الحقبة (الربع الأخير من القرن التاسع عشر)، لكي يجرب حظه في العاصمة الفرنسية بعدما أمضى فترة من الخدمة العسكرية صف ضابط في القوات الفرنسية في أفريقيا. إن دي موباسان يقدم لنا هذه الشخصية منذ البداية، شخصية رجل عديم الموهبة، لا وازع لديه ولا ضمير، كل ما يهمه هو النجاح المهني والاجتماعي ولو على حساب الآخرين وحساب عواطفهم وكرامتهم. > أما إذا كان جورج دوروا هذا وجد نفسه في معترك الصحافة كاتباً ومحرراً، فإن هذا لم يكن إلا بفعل المصادفة وحدها، إذ إنه أمر تحقق له إثر لقائه في باريس صديقاً له، كان رفيقاً له في الخدمة العسكرية، ويدعى شارل فورستييه. وفورستييه كان بعد تركه الجيش بدأ يعمل في الصحافة وصار له فيها اسم ومكانة. هكذا، لا يجد جورج أمامه، حين يلتقي شارل ويبحث عن عمل، إلا أن يسعى إلى الخوض في هذه المهنة. ولما لم تكن له أية موهبة صحافية حقيقية، تقوم مادلين، زوجة شارل فورستييه بمساعدته، إذ تكتب له وبتوقيعه، مقاله الأول... ويحدث أن المقال يثير على الفور ضجة من دون أن يعرف أحد حقيقة أن جورج ليس كاتبه. وتكون النتيجة أن الثري وعملاق الصحافة والتر، صاحب «الحياة الباريسية» وغيرها من الصحف، يكلف جورج إدارة صحيفتين من صحفه. هكذا، بفعل عقله الماكر وقدرته على إثارة الفضائح، ودائماً بمساعدة مادلين التي يبدو الآن من الواضح أنها تهيم به، يصبح جورج دوروا صحافياً مرموقاً في باريس. لكنه لا يكتفي بهذا، بل إن سحره تجاه النساء، وهو سحر لا يقاوم - ومن هنا لقب «بل آمي»، أي الصديق الجميل الذي يطلق عليه - يمكّنه من أن يرتقي السلم الاجتماعي - الصحافي أكثر وأكثر، خصوصاً بعد أن يموت صديقه شارل بالسل، ويتزوج جورج بأرملته مادلين، ويصبح سياسيٌّ مرموقٌ صديق لهما، وزيراً، ويكون هو الآخر على علاقة بمادلين أيضاً. في الوقت نفسه يكون جورج أضحى عشيقاً لزوجة والتر، وبدأ يغوي ابنة هذا الأخير ذات السبعة عشر ربيعاً، ليس لهيامه بها، بل لأنه وجد أن ارتباطه بها وسيطرته عليها، سيجعلان منه - بالفعل - وريثاً لإمبراطورية صحافية، هي في الوقت نفسه، إمبراطورية مال وسياسة. > هكذا، تتلاحق الأحداث والعلاقات بين الشخصيات... ولا يتوانى جورج عن تهديد السياسي - الوزير بفضح علاقته بمادلين، سعياً وراء مآربه الخاصة، كما أن زوجة والتر، حتى حين تكشف حقيقة علاقة عشيقها جورج بابنتها سوزان، لا تجرؤ على التفوّه بكلمة، خوفاً من فضيحتها الخاصة. هكذا، يصبح في إمكان جورج دوروا الذي صار الآن يدعى «السيد جورج دي روا» - ما يوحي بأصول نبيلة له - أن يسيطر على الصحافة والمال والسياسة، في زمن فاسد، لم تكن الديموقراطية الحقيقية استقرت فيه تماماً. > من الواضح أن من يقرأ «بل آمي» سيجد نفسه في العوالم ذاتها التي تشكل خلفية الكثير من الأعمال الروائية المشابهة، لا سيما في الأدب العربي، (كما في «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، بخاصة «الرجل الذي فقد ظله» و «زينب والعرش» لفتحي غانم، ناهيك بمسرحيات اجتماعية عدة لتوفيق الحكيم)، ذلك أن هذا العمل الأخاذ يبدو في نهاية الأمر الأب الراعي لكل ذلك الأدب الذي تحلق حول المسألة الصحافية. مع هذا، فإن دي موباسان في «بل آمي» وصل إلى مستوى من التشاؤم والسوداوية في مجال وصف الأخلاق المهنية، إلى مستوى لم يبلغه أحد من قبله أو من بعده، حتى وإن كان نُظر إلى الرواية دائماً على أنها تبدو أقرب إلى اللوحات الفسيفسائية المتتابعة، منها إلى العمل السردي المتواصل المتكامل. > كما أشرنا، أثارت رواية «بل آمي» حين نشرت للمرة الأولى عام 1886، ضجة كبيرة في فرنسا، وشُجب دي موباسان (1850 - 1893) بسبب كتابته لها، وبسبب كل ذلك القدر من اللاأخلاقية - غير المدانة في نهاية الأمر - الذي طبع عمله. أما هو، فإنه اكتفى دائماً بالقول أنه لم يقصد أن يقول أن كل الحياة الصحافية هي هكذا، بل جزء منها فقط. والحال أن «بل آمي» التي شغلت الناس خلال السنوات الأخيرة من حياة مؤلفها، إنما أتت لتتوج عملاً أدبياً إبداعياً، كان أوصل الكاتب إلى الذروة حيث صار يعد في مقدم أدباء زمنه، على رغم أنه لم يعش طويلاً.

مشاركة :