كيف ولماذا نفكِّر بالغَير؟ سؤال لا يتبدَّد مع الزمن، وهو أيضاً لا يبور ولا يولِّد الضجر. لكنّه - إلى هذه الخواصّ - سؤال تَركَّب على الالتباس والغموض والمُفارَقة، إذ لا يُمكن التفكير بالغَير من دون التفكير بالذّات. ولا يُمكن الاعتناء بالأولى من دون أن تنال للأخرى الحظَّ نفسه من العناية. كما لو أنّ مهمّة التفكير بالغَير تظلّ محكومة بالنقص، ولا تبلغ تمامها، ما لم تتعرّف الذاتُ السائلةُ إلى نفسها. التعرُّف إلى الغَير لم يكُن ليتحوَّل إلى مُشكلٍ أصليّ، لو لم تُصبح مهمّة المتعرِّف استفهاماً عن كائنٍ هو غريب بالنسبة إليه. ومَعرفة الغريب تزداد إشكالاً متّى أمست ضرورة لمَعرفة الذّات. فكلّ شيء خارج «الأنا» مسكونٌ بالغربة ومُستدعٍ للتريُّب. ذاك أنّ استكشاف المجهول - سواء أكان نصّاً أم شخصاً أم كينونةً حضاريّة - مسألة دونها صبر وحذر ودرجة عليا من الاستبصار. وما هذا إلّا لأنّ كلّ مجهول ينطوي على سرّ، وكلّ سرٍّ محمول على جاذبيّة الانكشاف والمُساءلة. أمّا السؤال الذي تثيره الأنا من أجل فَهم الآخر، فإنّه غالِباً ما يحملها على الاستفهام عن ماهيّته كإنسان، وتالياً كنظير لها في الانسانيّة. الشيء الذي يعني أنّ «الأنا» حين تستفهمُ عن نفسِها، تروح تستفهمُ في اللّحظة عينها عن نظيرها. علّة الأمر.. أنّ ضمير المستَفْهِمِ يمكث في قلب علامات الاستفهام ولا يَقدر على مُفارقتِها ابداً؛ وحيث إنّ السائلَ إنسانٌ يريد التعرُّف أكثر إلى نفسه عن طريق فَهم غيره، فقد استشكَل عليه السبيل. فـ«الإنسان قد أَشكَل عليه الإنسان» كما يبيِّن أبو حيّان التوحيدي في «الإشارات الإلهيّة». والإشكال هنا مرجِعهُ الغموض الذي يجتاح عالَم الآدميّة بلا هوادة مذ غدا حضوراً سارياً في التاريخ. وعلى الرّغم من أنّ هذا الغموض يلفّ الموجود الإنسانيّ، فإنّ هذا الأخير يظلّ عاكِفاً على تظهير شوقه العميق لمَعرفة حقيقة وجوده، والغاية التي سوف ينتهي إليها. مِحنة الاستفهام التي انبتَت الفضاء الميتافيزيقي الذي وُلِد فيه التساؤل عن سرّ الكون، لا تزال سارية في التفلسف المُعاصِر. وليس لنا أن نرى إلى تساؤل هايدغر عن «سبب وجود الموجودات بدلاً من العدم»، إلّا بحكم كونه «التساؤل الأعظم» الذي يلخِّص مَشاغل الفلسفة منذ إرهاصاتها الاولى. فلو كان من جوابٍ عن الاستيضاح البَدئيّ: ما الأنا؟.. ما الآخر؟.. ربّما عثرنا عليه في ما يختزنه التساؤل القديم إيَّاه، إذ في اللّحظة التي نهمُّ فيها بالإجابة نرانا أمام أسئلة لا نهاية لها. ذلك أنّ التفكير بالذّات وبالغَير ككينونةٍ معرفيّة واحدة، هي مهمّة مُستدامَة. والقضايا التي يفترضها المفكَّر فيه أي - طرفَي هذه الكينونة - تتأتّى أصلاً ممّا شقَّ فهمهُ بهما معاً. لكن يبقى على المتعرِّف أن يُضاعف من تساؤله ليتبيّن المزيد ممّا خَفِيَ عنه أو استغلق عليه. ولذا، فإنّ أوّل شيء يُكابده هذا المتعرّف هو التناظُر المُريب الذي يجري داخل ثنائيّة لا تجد السبيل إلى الانسجام والتكامل بين جناحَيها. ففي الثنائيّات المُتنافرة سيبقى كلُّ جناحٍ تائهاً في غربته، أو ساكناً في كهفه المُغلق.ماهيّة التعرّف وهويّة المتعرِّف التعرُّف في مسراه القَولي والعَملي سهلٌ مُمتنعٌ. ولهذا السبب لا يُنال إلّا بحرثٍ عاقلٍ، أو بمَسلكٍ أخلاقي محرّرٍ من عوارض العصبيّة وأنانيّاتها. والمتعرِّفُ الآخذ بهذه الصفات يُعرب عن هذا المسرى بلِسان الحكمة كلّما اقترب من حدثٍ غمُضَ أمرُه، أو قولٍ أشكَل عليه. فحالئذٍ سيمضي إلى مهمّته بدأبٍ حتّى يتبيَّن له ما استعصى عليه من أفهام. فالذي تعقَّل فضيلة التعرُّف وتخلَّق بها، مدركٌ أنّ ما يفعله، إنّما يدخل ضمن سَيْرِيَّة تحويل الجهل إلى عِلم، والبعيد إلى قريب، والآخر المُختلف إلى نظيرٍ مساوٍ في الآدميّة. وهذه السَيْرِيَّة لا تنهض وتنمو إلّا باقترانٍ جوهريّ بين الإيمان بمكانة الإنسان السامية في الوجود، والعمل على تصديق هذا الإيمان قولاً وعملاً في الآن عينه. من أجل هذا تظهر الهندسة الأوليّة لنشاط المتعرّف ضمن ثلاث دوائر تتكامل في ما بينها: دائرة التعرُّف إلى ماهيّة الغَير كما هي في الواقع. دائرة التعريف بالذات كما هي بعَين نفسها. دائرة العرفان بجميلِ ما قدّمته الحضارات الانسانيّة من مَعارف وقيَم روحيّة وعِلميّة على امتداد أزمنتها. ولكي تستوي مهمّة المتعرِّف على نصاب البَيان المنهجي نقترح ثلاثة مَنازل: أولاً: التعرُّف بما هو معرفة الإنسان بوصفه إنساناً، أي فهمه كما هو في ماهيّته الوجوديّة وهويّته الحضاريّة. ثانياً: التعرُّف بما يعني الإقبال على الغير، والقبول به، ومن ثمّ استقباله ومعايشته كنظيرٍ في الآدميّة لا تشوب ناظريّتُه شائبة. ثالثاً: التعرُّف بوصفه مقصداً ميتافيزيقيّاً وفوق ميتافيزيقي: في المقصد الميتافيزيقي، يصل المتعرِّف بسؤاله إلى فَهم حقائق الموجودات. ـ وفي المقصد ما فوق الميتافيزيقي، يبحث عن سرّ الوجود في كلّ موجود. بحيث يصير همُّه الأقصى الوقوف على الأصل الإلهي الذي ظهرت بسببه الكائنات كلّها. وعليه.. يأخذ المتعرِّف بهذه المَنازل الثلاثة من أجل أن يصل غايته عبر جدولَين متآخيَين مُتلازمَين: جدول المَعرفة وجدول الفضيلة. من طريق هذَين الجدولَين تولد الأسئلة، وتنمو إشارات الاستفهام، وعلى سريانهما النشط ينعقدُ الرّهان على كلّ تجديد واجتهاد في عالَم الفكر. وعليهما استتباعاً، يُمكن للمتعرِّف، تحصيل التبصّر وسعة النظر. بهاتَين الخاصيّتَين يستطيع الإحاطة بأوسع مساحة مُمكنة في عالَم الكثرة والاختلاف. ففي هذا العالَم ينظر إلى الغَير كما هو وبكامل حضوره. وهو ما لا يحرزه إلّا الشخص الساعي إلى استكشاف نظيره ليعقد وإياه ميثاق الاخوَّة، ثمّ ليَمضيا معاً للتعرّف إلى سرّ الوجود المُستتِر. على سبيل المثال: تبدو مهمّة المتعرِّف في مَقام التحاور بين الأديان، أكثر جلاءً. فلو اقتربنا من هذا المَقام، لوجدنا أنّ من مُقتضيات التحاور هنا اقتران الإيمان بالمَعرفة. فلا تحاور على أرض التكافؤ البنّاء، ما لم تتلازم هاتان القيمتان لتغدوا معاً أساس كُلّ لقاء. فالمنطق الذي يحكُم الشخص المتديّن لجهة ما يبذله من مجاهدات نفسيّة وروحيّة وفكريّة من أجل تمتين ارتباطه المَعرفي بدينه، هو نفسه المنطق الذي يحكُم الشخص إيّاه ليبذل الجهد اللّازم باتّجاه التعرُّف إلى دين غيره. يستلزم الأمر في هذه الحال، سَيْريّة نشاط مدفوعة بالإيمان بالغَير بوصفه نظيراً في النَّوع الإنساني من جهة، ومن جهة ثانية، بإرادة التعرُّف إلى هذا النظير كمؤمنٍ بدينه، وكشريكٍ في رحلة البناء الحضاري للإنسانيّة. الإيمان والمَعرفة، هنا، لا يتجزّءان ولا يَنفصلان. ومتى كان مقتضى التعرُّف، التلازم الذي لا ينفكّ بين الإيمان والمَعرفة، تكون حرّية المتعرِّف أوّل حاصِلٍ لمثل هذا التلازُم. بها يُفارِق خشيته وتريُّبه من وَهْمٍ مؤدّاه: أنّ اللّقاء بثقافة الآخر قد يلحق الأذى بثقافته الدينيّة وإيمانه. ذلك يعني أنّ التعرُّف المؤيَّد بالحرّية المُدرِكة والواعية، هو عمليّة مُركّبة: من جهة تلبّي الحاجة إلى التواصل واللّقاء الذي تفترضه ضرورات الحياة من ضمن جغرافيا حضاريّة ودينيّة مُشتركة، ومن جهة ثانية تنجز الحاجة إلى فَهم ما كان غير مفهوم من المَعارف الإيمانيّة والدينيّة والحضاريّة لدى الفريق الآخر..
مشاركة :