«حي بن يقظان» لابن طفيل: العودة الى معرفة الذات السقراطية

  • 3/22/2014
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

النسخة: الورقية - دولي في واحد من حوارات أفلاطون السقراطية، يرينا الفيلسوف استاذه وقد شاء أن يثبت ان المعرفة الحقة موجودة في داخل الانسان، لا تأتيه من خارجه، وأنه يكفي أن يوجد الظرف والدافع حتى تطلع من داخل الكائن البشري الواعي ولو بصورة عفوية، معارفه وقدرته على الربط بينها لاستخلاص افكار جديدة، بل حتى معارف سابقة الوجود ليس من الضروري ان تكون قد لُقّنت من طريق معلم ما. ففي ذلك الحوار، وإذ يتحدى البعض سقراط أن يؤكد هذا، يلتفت سقراط الى عبد فتى كان في المكان ويروح طارحاً عليه جملة أسئلة متشابكة ومترابطة، يجيب عنها الفتى بالتدريج، من دون أن يكون هو، أصلاً، عارفاً بقدرته على الإجابة، وذلك أمام ذهول الحاضرين. > وهذه المعرفة الداخلية هي الموضوع الأساس لواحد من أجمل الأعمال في تاريخ النصوص الفلسفية العربية: «حي بن يقظان» للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، هذا النص الذي لا يتردد كثيرون أمام اعتباره «رواية» حقيقية بالنظر الى انه يحمل سمات العمل الروائي كافة. ونعرف ان كثراً من الباحثين والمؤرخين يعتبرون ان هذا العمل الروائي - الفلسفي الأندلسي قد أثرّ في عدد كبير من الأدباء والفلاسفة. بل إن منهم من يقول ان نصّ «حي بن يقظان» إنما هو الأصل الأول الذي بنيت عليه تفاصيل بل حبكة رواية «روبنسون كروزو» الشهيرة والتي تعتبر بدورها تأسيسية في الآداب الأوروبية. > غير ان الفيلسوف والمفكر الأندلسي المسلم إبن طفيل، حين كتب «حي بن يقظان» في أواسط القرن الثاني عشر، لم يكن يتوخى منها، طبعاً أن تكون عملاً أدبياً، أو فلسفياً، (كما لم يكن في ذهنه ان كثراً سيأتون من بعده ليروا انها ساهمت «في تأسيس» الآداب الروائية أو حتى الفلسفية الأوروبية). لم يكن اي من هذه المسائل يشغل بال الرجل. كل ما في الأمر أنه أراد من خلال كتابته نصّ «حي بن يقظان» ان يثبت ويوضح الكثير من نظرياته الفلسفية. ويقيناً، في هذا الإطار، انه لم يكن من قبيل المصادفة، أن يستخدم إبن طفيل في كتابة هذا العمل، حبكة كان سبق للفيلسوف إبن سينا، في المشرق الاسلامي أن استخدمها من قبله، في عمل مشابه، وأيضاً للتعبير عن مواقف فلسفية أكثر بكثير مما لتقديم عمل روائي أو حكاية مسلية. > إذاً، على غرار الفيلسوف المشرقي الكبير وعلى خطاه، كان ما أراد ابن طفيل التعبير عنه، كما يمكننا ان ندرك بسرعة، قدرات العقل الانساني على ادراك الحقائق، حتى من دون أي تدخّل تعليمي من الخارج والتحديد انطلاقاً من الفكرة الأفلاطونية - السقراطية التي أشرنا اليها اول هذا الكلام. حيث من الواضح ان الجانب الأساس في هذا النص هو وصف كيف يقيّض لحي بن يقظان أن يدرك حقائق الوجود والالوهية، وعلاقته هو نفسه بالدين والإيمان، من دون أن يكون ثمة وسيط في ذلك وبالتحديد خارج اي مجتمع انساني ومن دون معرفة اية لغة او اي تاريخ وما شابه. > ونعرف طبعاً ان هذا النص قد قرئ منذ زمن بعيد وتداولته أجيال من القراء العاديين - كنصّ روائي طبعاً، بما في ذلك صيغ منه كتبت مبسّطة للفتيان في اللغة العربية على الأقل -، كما تداولته أجيال وطبقات من الباحثين، إنما هذه المرة لغايات أخرى... فإننا نعرف ايضاً ان النص الذي تداولته العامة انما كان غالباً جزءاً اول من مجموع العمل. حيث ان الأجيال المتلاحقة من القراء اكتفت دائماً من «حي بن يقظان» بجزء أول منها، يروي حكاية الفتى الذي وصل طفلاً بطريقة غامضة، الى جزيرة نائية في المحيط الهندي، ثم بدأ يعي الوجود وما حوله بالتدريج، ممضياً سنوات طفولته ومراهقته من دون اي رفيق من إخوانه في البشرية او انيس، فإن ثمة جزءاً ثانياً من ذلك النصّ، قلّما التفت اليه القراء العاديون بل قلّما نشر في طبعات شعبية وبالتالي لم يُصر ابداً الى تلخيصه وتبسيط سياقه ومعانيه كي يقرأه البسطاء من الناس، على رغم ان هذا الجزء أثار دائماً اهتمام الباحثين المتخصصين. وهذا الجزء هو الذي يشكل خاتمة الرواية، ويسر الأحداث والمواقف التي تتوالى بعد عودة حي بن يقظان وآسال (أو أبسال وفق بعض الروايات) من جزيرة سلامان، وهي الجزيرة المجاورة التي كانا قد توجّها اليها لكي يتولى حي بن يقظان فيها تعليم الناس أموراً تتعلق بالحقائق الصوفية، عبر غض النظر هنا على الأقل عن أية أشكال خارجية من أشكال التعليم الديني. حيث نجد بعد تلك العودة أن الأمور تبدأ بالاتضاح ويتبين لحي بن يقظان ورفيقه ان من الأفضل عدم اثارة تلك الأنفس البسيطة المعتادة على التعاليم التقليدية التي تأتيها من أعلى، بتلقينها دروساً جديدة وأفكاراً غريبة عنها تتوصل اليها هذه المرة من طريق اساتذة وباحثين متنورين. ان الاستنتاج هنا يفيد بأن من الأفضل ترك نفوس أو أفكار أولئك الناس البسطاء الطيبين على ما هي عليه. وعند النهاية هنا نرى كيف ان حي، إذ يدرك هذه الحقيقة بالتجربة، ويدرك في الوقت نفسه، أهمية التعليم الخارجي بالنسبة الى الجموع يعود الى جزيرته مع أبسال ويكرس نفسه للمعرفة الاشراقية مكتفياً بالعمل على تلك النفس. هل فشلت تجربة حي بن يقظان؟ ليس تماماً... كل ما في الأمر أن حي و «أستاذه» يدركان أن المجتمع البشري «مستعصي الشفاء» (وفق تعبير الأستاذ هنري كوربان). ومن هنا، فإن الرفيقين يعودان الى جزيرتهما التي كانا قد انطلقا منها، و «قد أدركا، بالتجربة، ان الكمال وبالتالي السعادة، لا يجد اليهما سبيلاً إلا نفر قليل من أولئك الذين توافرت لديهم قوة التخلي والإعراض». > وفي عودة الى السياق الروائي لهذا النص، نذكّر بأن حي بن يقظان هو، كما نعرف، طفل ولد من غير أم أو أب أو من زواج سري، ووُضع في صندوق رمي في البحر، وهو بعد ان يمضي زمناً في البحر يفيق على حاله، ليجد نفسه في جزيرة موحشة نائية. وعلى الفور تلتقيه ظبية كانت فقدت وليدها فترضعه وتربّيه. وهو حين يصل الى سن الصبا يبدأ التعرف الى ما حوله، ويظل على تلك الحال قرابة الخمسين عاماً، متوحداً (وفي هذا ما يلتقي مع «متوحّد» ابن باجة) يتأمل الكون حوله، ويكوّن لنفسه آراءه ومعارفه، من دون لغة ومن دون استاذ ومن دون أي عون بشري من الخارج. وبعد في سن الخمسين يكون لقاؤه مع آسال (أبسال)، ومغامرة توجههما معاً الى جزيرة سلامان، وفشل التجربة. > من الواضح أن ابن طفيل، لم يشأ هنا أن يروي حكاية، بمقدار ما شاء أن يرسم سيرة ذاتية فكرية للفيلسوف (له هو أيضاً) مستنداً أصلاً الى نص إبن سينا. ومن هنا، فإن الأحداث والمواقف والتبدلات، سرعان ما تتخذ طابعاً رمزياً لا شك فيه، ما يجعل النص كله عملاً فلسفياً لا روائياً، وعملاً فلسفياً موضوعه الانسان نفسه، مجرداً من كل عنصر يخرج عنه. وكأن ابن طفيل أراد أن يبرهن على صحة مقولة سقراط الشهيرة «اعرف نفسك بنفسك». ويقيناً أنه نجح في ذلك، حتى ولو كانت النتيجة عودة بطله الى وحدته والى ذاته. > ولد ابن طفيل عند بدايات القرن الثاني عشر الميلادي في قادس (وادي آش)، ومن هنا لقبه «فيلسوف قادس» وتوفي في مراكش بين العامين 1185 و1186. وهو عُرف بسعة اطلاعه إذ كان طبيباً ورياضياً ومنجّماً وشاعراً وفيلسوفاً. عمل وزيراً لدى أمير غرناطة قبل أن يتوجه الى مراكش ليعمل طبيباً ووزيراً لدى أبي يعقوب يوسف، وكان هو الذي قدّم صديقه ابن رشد الى ذلك الخليفة المتنور مقترحاً عليه تكليفه شرح كتابات أرسطو. وعلى رغم تعدّد كتابات ابن طفيل الفكرية، فإن «حي بن يقظان» تبقى الأهم والأشهر بين أعماله.

مشاركة :