يبحث الكثير من السياح عن أفضل الوجهات السياحية التي توفر لهم الهروب من صخب الحياة وروتينها إلى الاستمتاع بالهدوء والسكينة في أحضان الطبيعة، وقد وجدت شركات سياحية مصرية في دعم إنشاء معسكرات من الأكواخ في بعض المحميات الطبيعية الواقعة في محافظة جنوب سيناء، فرصة لاستقطاب المزيد من الباحثين عن تجربة الإقامة في منتجعات بدائية، لتحقق انتعاشة، وتوفر في الوقت نفسه مكانا يقدم عزلة تامة عن العالم الخارجي للراغبين في ذلك. جنوب سيناء (مصر) – لم يكن البحار سمير القرش وصديقه أحمد فتحي يتوقعان عندما شيدا أول معسكر أو “كامب” بدائي على شواطئ محمية “بلو لاجون” في جنوب سيناء، قبل عشرين عاما، أن يتحول حلمهم بانتشار منتجعات سياحية في مصر تعود بالسائح إلى الطبيعة، إلى مشروع كبير تشجعه الحكومة ويستقطب الآلاف من السياح للبحث عن حياة بسيطة في تلك البقعة البحرية النائية. تمتلك مصر العديد من البقاع البحرية المميزة والفريدة على البحر الأحمر تحديدا، بداية من مدن شرم الشيخ ودهب ونوييع ومرورا بالغردقة ومرسى علم، لكن يبقى مشهد تقديم حياة هادئة بعيدة عن التمدن، والوتيرة التكنولوجية السريعة، والتلوث وأبواق السيارات، شكلا جديدا على السياحة التي تحولت فيها القرى النائية إلى أحد العناصر الحديثة التي تدعمها الحكومة في مصر لجذب المزيد من السياح. وانتشرت في السنوات الأخيرة العشرات من المعسكرات التي تريد العودة إلى الحياة البدائية في سيناء، والواحات البحرية وسيوة في الصحراء الغربية، والتي تحتوي جميعها على أكواخ خشبية ملونة، ومعسكرات خالصة من سعف النخيل. وقال القرش، بحار متقاعد ومالك لمعسكر سياحي في منطقة بلو لاجون، إن تجربة حياة الإنسان القديم باتت متعة للكثير من السياح الباحثين عن الاستجمام بعيدا عن حياتهم المزدحمة، والتي تؤدي إلى الكثير من التوتر والإرهاق الذهني والجسدي، وأصبح الهروب إلى الانعزال التام أمرا مطلوبا، لكنه مسألة صعبة. وأضاف القرش لـ”العرب” أن مشروعات المعسكرات البدائية في المحميات المصرية أضحت نموذجا فريدا لتحقيق تلك المعادلة الصعبة، فداخل المعسكرات النائية لا يمكن التواصل مع الخارج، فقط الاسترخاء والاستمتاع بالطبيعة البحرية والجبلية الساحرة التي لا مثيل لها عبر رحلة بسيطة، ولكنها مليئة بالتسلية والمفاجآت. واختارت “العرب” تلك الأوقات من السنة، وتحديدا فصل الخريف الذي يعد الفترة الأمثل للزيارة، ورافقت أحد الأفواج السياحية أو القوافل، كما يحب أن يسميها القرش، في رحلتها إلى أحد معسكرات بلو لاجون. لا يمكن الوصول إلى المنطقة النائية إلا عن طريق وسيلتين، إما عربات الدفع الرباعي التي تخترق صحراء سيناء ودروبها أو عن طريق البحر، وهي الوسيلة المفضلة والآمنة للسياح. أكواخ من سعف النخيل تنعش الأجواء الشاطئيةأكواخ من سعف النخيل تنعش الأجواء الشاطئية وتبدأ رحلة القوافل في الصباح الباكر من كل يوم بميناء مدينة دهب الساحلية في جنوب سيناء، التي تبعد عن منطقة بلو لاجون نحو 20 كيلومترا، ويستقل السياح مركبا صغيرا يأخذ نحو 15 دقيقة للوصول إلى محمية “أبوجالوم” وتقبع فيها بلو لاجون. وعند الوصول إلى المحمية الطبيعية على السياح التحرك لجهتهم الأخيرة عبر ركوب الجمال، وسيلة المواصلات الأساسية في المحمية، ويمضون رحلة قصيرة ممتعة بموازاة البحر للوصول إلى بلو لاجون. وتمتلك هذه المنطقة طابعا فريدا ومميزا عن بقية الشواطئ المطلة على البحر الأحمر، نظرا إلى طبيعتها الغريبة التي جعلتها أشبه بحمام سباحة عملاق له لون أزرق براق، وتحيطه الجبال من كل ركن، ويمتاز بانسيابية المياه، والتي جعلت ممارسة السباحة والألعاب المائية في تلك المنطقة اختيارا مثاليا. ولا توجد في المعسكرات المتراصة في خليج بلو لاجون سوى أكواخ متعددة، بعضها يمتلك مساحة أكبر ويسمح لشخصين بالإقامة فيه، وأخرى تكفي لشخص واحد. وفي تلك المنطقة الطبيعية لا يفضل استحضار أي شيء يقترن بالتكنولوجيا أو الحداثة، لأنه سيكون من المستحيل استخدامه، فلا توجد كهرباء أو موجات لشبكات الهواتف المحمولة أو الإنترنت. وتضاء المعسكرات ليلا بمصابيح بدائية تعمل بالوقود، تصاحبها قداحة نارية كبيرة تشتعل بعيدان من الخشب أمام البحر، ويلتف حولها كل زوار المنطقة، وتقدم مجموعة من العاملين تطلق عليها تسمية “الهلاسون”، عرضا غنائيا بدويا يشترك فيه كل الجالسين بشكل دائري حول النار المشتعلة، وأثناء الاحتفالات البسيطة يختلس البعض نظرات طويلة للنجوم المتلألئة التي تملأ السماء الصافية. ويبدو كل شيء بدائيا في تلك المعسكرات، حتى أدوات طهي الطعام التي يحضرها أصحاب المعسكرات من مدينة دهب، إذ يقومون بطهي الأكل في أوانٍ فخارية، كما يتم ذلك على الفحم والخشب بدل المواقد، ثم يتناوله الحاضرون في أطباق خشبية. وفي حين لا تحتوي تلك المعسكرات على حمامات عصرية، لكنها تقدم نموذجا صغيرا لحمام شديد البدائية ومعه صحن كبير من المياه يُستخدم للاستحمام والتنظيف. معسكرات تمنح السائح تجربة فريدةمعسكرات تمنح السائح تجربة فريدة ويهتم الهلاسون بإيقاظ السياح عند وقت الشروق، فالنوم في تلك المعسكرات يكون في وقت مبكر، والاستيقاظ أيضا، وهذا من الشروط الأساسية في هذه الأماكن. وتبدو الشمس عند سطوعها من خلف الجبال المحيطة مكتسية برداء أحمر وردي اختلط بسواد مهيب، وتتسرب أشعة النور ببطء حتى تملأ الخليج كله بإضاءة خافتة ما زالت لم تشتد، لتعكس أشعتها على المياه شبه الراكدة، ويعد مشهد الشروق أشبه بلوحة فنية بديعة لأعظم رسامي الطبيعة، كارفيجيو وهنري مونيه. وينقسم السياح خلال اليوم إلى فرق، بعضهم يختار الجلوس في هدوء متأملا درجات ألوان البحر المتغيرة، ويمارس رياضة اليوغا، وآخرون يختارون الاستمتاع بممارسة رياضات الغوص والطفو لمشاهدة الشعب المرجانية والأسماك الملونة. وتشتهر منطقة بلو لاجون بالكهوف المائية التي يمتد بعضها إلى أكثر من 100 متر، وتحتوي على العديد من الحيوانات البحرية النادرة، فيما يقوم البعض باستكشاف الجبال المحيطة والصحراء البيضاء عبر ركوب الجمال. ويجلس السياح خلال أوقات الغروب يراقبون المشهد الأخير وسط الاستمتاع بنسيم الهواء البارد، وتتجول فتيات صغيرات يعشن وسط الصحراء، ليقمن ببيع سلاسل وخواتم صنعت يدويا من صدف البحر الملون، وبقايا الشعب القديمة لتكون ذكرى مقترنة بتجربة الحياة البدائية الجذابة. وبلو لاجون محمية طبيعية، لذلك لا يسمح بدخول مظاهر التمدن إلى المكان، وتتم الاستعانة بكل الأدوات الصحية غير الملوثة للبيئة، ما يضفي ملمسا جديدا على الحياة البدائية المقصودة في المكان، ولا توجد وسيلة للتواصل مع العالم الخارجي إلا عن طريق هاتف محمول واحد يمتلكه مدير المعسكر ويعمل بنظام “جي.بي.أس” للحالات الحرجة. ويختار البعض البقاء ليوم واحد، وآخرون لثلاثة أيام، حسب قدرة الشخص على العيش في انعزال عن العالم، لكن في النهاية تتميز المنطقة برخص أسعارها مقارنةً بالمدن المحيطة، فسعر إيجار الكوخ في اليوم الواحد حوالي 20 دولارا.
مشاركة :