ما يميز ابن آدم عن سائر الكائنات أنه اجتماعي ولستُ ميّالًا لقبول تعريف الإنسان بأنه حيوان ضاحك فربما لعديد من الكائنات ضحكات بأصوات وأساليب تختلف عن أساليب بني البشر، والعديد من الحيوانات والطيور والحشرات اجتماعية بمعنى أن بينها ترابطا وتآلفا وتكافلا، ولكنه على نطاق محدود للغاية، فهي تشكل مجموعات صغيرة أو كبيرة منقطعة أو ضعيفة الصلة بالمجموعات الأخرى من جنسها، بينما الإنسان السوي يتعايش مع بيئة البيت والأسرة الكبيرة والحي والمدرسة ومكان العمل، وتكون له علاقات عابرة للحدود السياسية والجغرافية، ولهذا -مثلا- يتعاطف الهولنديون مع السوريين الذين يعانون من ويلات الحرب، ويتدافع المواطنون من جميع القارات لمساعدة منكوبي السيول أو المجاعات في هذا البلد أو ذاك، ورأيت مؤخرا عجبا على قناة ناشونال جيوغرافيك، عن كيف تتخاطب الأشجار مع بعضها البعض عبر جذورها، وكيف يساعد بعضها البعض في مقاومة الآفات. ولكن كما أن ابن آدم كائن اجتماعي فإن من بين كائنات قليلة تسبب الأذى البسيط أو الجسيم لبني جنسها، في غياب مبرر لذلك، فمعظم الحيوانات المفترسة لا تقتل غيرها إلا عند حاجتها إلى الطعام ولا تتعارك فيما بينها إلا حول الطعام ومناطق النفوذ (الثعلب حيوان خسيس فإذا دخل حظيرة دجاج مثلا، قتل جميع ما فيها ثم حمل دجاجة واحدة وعاد إلى جحره). ومع هذا فالأصل في الإنسان هو الخير، وحتى من نسميهم عتاة المجرمين قد تحرك ضمائرهم وحواسهم مواقف معينة فينتصرون لنوازع الخير في دواخلهم، وكتبت من قبل عن القاتل المأجور الذي كلَّفه ديكتاتور زيمبابوي روبرت موغابي باغتيال رئيس تحرير صحيفة مشاكسة، وانتظر الرجل حتى خرج الصحفي في آخر الليل ودخل المصعد الكهربائي فدخل معه وهو يتصبب عرقا، ولاحظ الصحفي المستهدف حاله تلك فربت على كتفه وقال له ما معناه: يظهر أنك تعبان ومريض تعال معي إلى المكتب لتشرب بعض الماء وتستريح ولو لم تتحسن حالتك سأذهب بك إلى المستشفى، هنا دمعت عينا القاتل المأجور وقال للصحفي: فقط ساعدني على التسلل عبر الحدود إلى جنوب إفريقيا، لأنني لو بقيت في زيمبابوي سأتعرض للقتل لفشلي في قتلك. وهناك اللص الألماني المسلح الذي اقتحم بيتا ووجد بداخله سيدة تجلس مع طفلين، وكانت تلك السيدة جليسة أطفال مستأجرة، وقد حسبها اللص ربة البيت فأشهر السلاح في وجهها وطالبها بتسليمه ما لديها من نقود ومجوهرات، فصاح أحد الطفلين: أرجوك لا تؤذها ثم توجه إلى صندوق صغير ومد يده للص قائلا: هاك عندي أربعة يورو، ولو انتظرت حتى يأتي أبي أو أمي سيعطونك نقودا أكثر، اضطرب اللص وقال للصغار ما معناه: أنا بهزّر، وسويت فيكم مقلب، وخذوا هذه عشرة يورو، ثم أدى شوية حركات جعلت الأطفال يضحكون، وخرج، وعندما سألت وسائل الإعلام والدي الطفلين لماذا لم يتقدما بشكوى للشرطة؛ قالا: ولماذا نشكو شخصا استيقظ ضميره وانصرف عن مهمة شريرة كان يعتزم القيام بها؟ بالتأكيد هناك أناس مجبولون على الشر والخديعة والوقيعة والخسة، ولكنهم أقلية، وبعضهم قد يعود إلى جادة الصواب، والقاعدة التي ينبغي أن نحكم بها على كل إنسان هي أنه طيب إلى أن يثبت العكس، وحتى بعد ثبوت العكس ينبغي عدم شطبه باعتبار أنه حالة «ميؤوس» منها، وفي هذا الصدد سأعيد سرد حكاية سبق أن أوردتها هنا قبل سنوات عن شخص هو في نظر القانون لص وخائن للأمانة.. هذا الشخص هو السيدة التي كانت تعمل في بنك ألماني ثم اكتشف فريق المراجعة أنها اختلست الملايين، ولكن المفاجأة تمثلت في أن حسابها المصرفي كان بائسا وكانت تعيش في بيت أقل من عادي، وتأتي إلى البنك بوسائل المواصلات العامة، وعند التحقيق معها اتضح أنها كانت تسحب نقودا من حسابات الأغنياء جدا، وتوزعها على حسابات العملاء ذوي المداخيل الضعيفة دائمي الاقتراض من البنك. لم يعتبرها القاضي لصة واكتفى بأن ألزمها بحسن السيرة والسلوك مدة سنتين.
مشاركة :