شخصيات تعود إلى الماضي تاركة الحاضر أشبه بالخراب

  • 11/21/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

بعد الإطاحة بنظام بن علي في الرابع عشر من يناير سنة 2011 ظهرت العشرات من النصوص والقصائد يمجد فيها أصحابها “ثورة الكرامة والحرية”، ويتغنون بها كحدث تاريخي كبير لم يسبق له مثيل. آخرون اعتبروا محمد البوعزيزي الذي مهد باحتراقه للانتفاضة الشعبية التي اندلعت في أواخر سنة 2010، “أيقونة الثورة”، واحتفوا به كشهيد ورمز كبير للثورة. كثيرون هم الكتاب والشعراء الذين تغنوا بالثورة التونسية ورمزها محمد البوعزيزي، ولم يتوقف الأمر على الكتاب التونسيين بل نجد حتى الكاتب المغربي الطاهر بن جلون قد تدخل في الحدث من بعيد، وكتب رواية ضعيفة وسطحية على شكل روبارتاج بعنوان “بالنار” احتفاء بالبوعزيزي. لكن كل تلك النصوص، وكل تلك القصائد، والشهادات التي ظهرت في السنة الأولى لـ”ثورة الحرية والكرامة” سرعان ما لفها النسيان، وأتلفها غبار الأحداث المتلاحقة بسرعة جنونية.. وجراء الخيبات التي مني بها التونسيون بعد فشل الثورة في تحقيق أهدافها المتمثلة في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، أصبح أغلب الشعراء والكتاب يتجنبون قراءة النصوص والقصائد والشهادات التي كتبوها في تمجيدها أمام الجمهور. بل لعل البعض منهم ندموا على ذلك ندما شديدا. الكتابة على عجل مرة أخرى، يكشف لنا الواقع أن كل النصوص والقصائد التي تكتب على عجل في زحمة الأحداث الكبيرة، مآلها الذبول والاندثار، خصوصا إذا ما انعدم الصدق والنزاهة عند أصحابها، وانكشف أنهم لم يكتبوها إلاّ لكي يركبوا تلك الأحداث، وينسبوا إلى أنفسهم بطولات وفضائل وهمية. الآن، بعد أن اتضحت الصورة، وبرزت على السطح عيوب ما آلت إليه “ثورة الحرية والكرامة”، وما أفضت إليه من خيبات مرّة على جميع المستويات، بدأت تظهر في الشعر كما في النثر وكما في الدراسات، أعمال تعكس الواقع المرير الذي عاشه التونسيون على مدى السبع سنوات الماضية. وما يتبين لنا في كل هذه الأعمال هو أن أصحابها توخوا الصدق والنزاهة، وهما ضروريان في كل الأشكال الكتابية والفنية، وابتعدوا عن الإثارة الرخيصة، وعن المبالغات والتفخيم في وصف الأحداث. الساعة الأخيرة أدب جديد بدأ يولد من ركام وأطلال الخرابأدب جديد بدأ يولد من ركام وأطلال الخراب وجدت في قصص مجموعة “الساعة الأخيرة” للشاعر والكاتب الشاب سفيان رجب الصادرة مؤخرا عن “دار ميارة للنشر”، ما أبهجني على مستوى الشكل، كما على مستوى المضمون، وما كشف لي المرارات التي يتجرعها يوميا أولئك الذين خيبت آمالهم وأحلامهم “ثورة الحرية والكرامة”، فباتوا يعيشون الأحداث وكأنها سلسلة من الكوابيس اليومية المرعبة. اختار سفيان رجب أن تدور أحداث مجمل القصص في مدينة النفيضة التي يعيش ويعمل فيها. وتقع هذه المدينة التي أسسها الفرنسيون بعد احتلالهم للبلاد التونسية في عام 1881، بالوسط التونسي. وهي مشهورة بأراضيها الخصبة. وفي العهد الفرنسي، كانت مدينة جميلة ونظيفة. أما من خلال قصص سفيان رجب فتبرز لنا كمدينة وسخة، اكتسحتها الفوضى، وكثرت الحفر في شوارعها، واحتلها أصحاب اللحى الشعثاء، والمحجبات والمنقبات فباتت شبيهة بمدينة مخربة، وفيها أضحت الحياة مقفرة من كل ما يمكن أن يمنح ساكنيها الأمان والبهجة والفرحة. أمام هذا الخراب، أصبح الناس يتصورون أن الساعة الأخيرة للعالم قد قربت. والشاب الذي قد يكون سفيان رجب نفسه، يفر من هؤلاء الناس بعد أن يسمعهم يتحدثون عن ذلك ليعيش كوابيس مرعبة في اليقظة وهو على يقين من أن الحياة على وشك الانقراض. وفي قصة “صياد الجثث”، يروي لنا سفيان رجب قصة صياد أسماك يتحول إلى صياد جثث الفارين إلى أوروبا في مراكب الموت. ومن خلال هذه القصة نكتشف العديد من المآسي التي عاشتها تونس في السنوات الأخيرة. فبعد الانحلال الأمني الذي أعقب سقوط نظام بن علي، فر آلاف الشبان من مختلف مناطق البلاد في مراكب الموت باتجاه جزيرة صقلية. وكثيرون منهم قضوا في عمق البحر، وجرفت الأمواج جثثهم لتعيدهم إلى الشواطئ التونسية. وفي قصته يسخر سفيان رجب من الندوات التي تنظمها الدول الأوروبية عن الهجرة السرية، ومن القرارات التي تتخذها حكوماتها بهدف الحد منها، ويكتب قائلا “لنلخص الحكاية أيها العالم المتحضر، فالعدم هنا عميق، والحياة أقصر من حبل مشنقة. إذا أردت لأفريقيا أن تنام سعيدة في أكواخها، وهي تشاهد مشهد طلوع القمر من بين سيقان الزرافات والأشجار العملاقة فأغلق شركاتك الكبرى التي تسمّنُ الوحش، وتجوّع الملاك”. وبالنسبة إلى سفيان رجب، تتمثل ردة “ثورة الحرية والكرامة” في أن الأجداد “لم يلحقوا بنا إلى عصورنا المغبرة، وإنما نحن الذين عدنا إلى عصورهم الغابرة”. وهو يلمح من خلال ذلك إلى العودة القوية والعنيفة للحركات الأصولية والسلفية التي أعادت التونسيين إلى الماضي السحيق حيث الخرافات والمعتقدات الزائفة التي تخدر العقول، وتجمدها، وتشل حركة المجتمعات. وختاما يمكنني أن أقول إن مجموعة “الساعة الأخيرة” التي كتبت بلغة شعرية راقية، وبأسلوب سردي بديع، دلّت على أن صاحبها قارئ جيد للأعمال الكبيرة، شعرية كانت أم نثرية. وهو ما ليس متوفرا بكثرة عند أبناء جيله. كما بينت لي أن هناك أدبا جديدا بدأ يولد من ركام وأطلال الخراب الذي تعيشه تونس راهنا.

مشاركة :