تيري إيغلتون ومراحل تطور الثقافة

  • 11/21/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

دلالةُ المفردةِ تختلفُ وفقاً للمجال والسياق الذي تتداولُ فيه غير أن ثمة ألفاظاً لا تغيبُ عن الحقول المعرفية.ما يكرسُ خصوصية أي مجال هو إنشاء معجمهِ الخاص من خلال المفردات والعبارات التي تخدمُ غرضه وقد تختلفُ دلالةُ المفردةِ وفقاً للمجال والسياق الذي تتداولُ فيه غير أن ثمة ألفاظاً لا تغيبُ عن الحقول المعرفية بقطع النظر عن تباينِ مناهجها، ولا يُمكنُ أن تجدَ لها بديلاً. بالطبع فإنَّ الثقافة من بين أكثر المفردات شيوعاً في مُختلفِ المستويات ومُتغلغلاً في الأحاديث اليومية كما تُستخدمُ في الوسائط الأكاديمية والنخبوية. التمدد اللفظي من الواضح أن هذا التمدد الملفوظي ليس إلا أحد أوجه مفهوم الثقافة المُتعالق مع كل أشكال الحياة بِتَشَعُباتها. أمر يستدعي الحفر في الجذور ومتابعةِ تطور مفهوم الثقافة وما تعنيه من الدلالات عبر التاريخ والإختلاف بينه وبين الحضارة. إذ يرى الشاعر البريطاني ت. إس. إليوت بأن الثقافة هي المعطى الذي يجعل الحياة مستحقة للعيش، وهناك من لا يفصلُ بين مفهومي الحضارة والثقافة بوصفهما تعبيراً عن المحتوى المعرفي والمُعتقدات والفن والأخلاق والقانون والعادات كما يوجدُ طرح آخر يضعُ مفهوم الثقافة في إطار القيم المعنوية ويقرنُ لفظ الحضارة بالجانب المادي ما يعني وجود رؤى غير متوافقة فيما يتعلقُ بهذا الموضوع وبدورهِ أراد الكاتب البريطاني الشهير تيري إيغلتون تتبع أساس تلك الإشكاليةِ ودراسة مفردة الثقافة ودلالاتها كما وردت في مؤلفات نخبة من المفكرين في كتابه المعنون بـ "الثقافة" الصادر حديثاً عن دار المدى بترجمة الكاتبة والروائية العراقية لطفية الدليمي. لطفية الدليمى فضلت أن ترفق الكتاب بمقابلة مع مؤلفه حيث يعلقُ الأخيرُ في إطار الحوار على الأفكار المُنبسطة على مساحة إصداره الجديد التعقيد على الرغم من خروج مفردة الثقافة من الحلقات الأكاديمية والتحامها مع القنوات المُختلفة لكن هذا لا يعنى أنَّ مفردة الثقافة أصبحت مدلولاتها مفهومةً وأنَّ ما تؤشر إليه واضح بالنسبة للجميع بدون اللبس، ولا يتحملُ وجهات النظر المُتعددة تأتى الثقافة حسب رأي إيغلتون في المرتبة الثانية أو الثالثة ضمن المفردات الأكثر تعقيداً في اللغة الإنكليزية، والحال هذه يذكرُ الكاتبُ أنَّ هناك أربعة معانٍ رئيسية يصحُ وضعها شرحاً لمفردة الثقافة. تراكماً للعمل الذهني والفني أو الصيرورة التي يحصلُ بها الإرتقاءُ الروحي والذهني أو القيم والعادات والمعتقدات والشعائر الرمزية. أخيراً تعني الثقافة الطريقة الكلية المُعتمدة في الحياة. بناءً على ما يُفهمُ من الجملة الأخيرة فإنَّ الثقافة تضمُ الشعر والموسيقى إلى جانب صنوف الطعام وأنواع الرياضة، وحتى شكل الدين والطقوس التي يمارسها اللابيون. وقد تجدُ مشتركات بين هؤلاء وغيرهم من الشعوب الأخرى في الملبس والمأكل وذلك يُبين توسيع دلالة مفهوم الثقافة فيما يتعلق بالشق الحياتي، ويُضيف إيغلتون حول هذا الموضوع زيادةً إذ يفرق بين الثقافة كطريقة الحياة على هذا المستوى تعنى الثقافة تكرار ما عمله أسلافك والتمسك بما إعتنقوا به. أما على المستوى الفني تتخذُ الثقافة معنى طليعياً وهذا الفصل بين مستويين يتفق مع ماذهب إليه وليامز من التمييز بين الثقافة لدى الطبقة العاملة والثقافة كاهتمام فني. بالمُقابل يرى الفيلسوف الألماني جوهان غوتفريد هيردر مفهوم الثقافة في سياق أكثر شمولية بحيثُ تنفتحُ على التجارة والصناعة والتقنية بقدر ما تعبرُ عن العواطف والقيم. ومن خلال مايعرضه مؤلفُ "النقد والآيدولوجيا" بشأنِ مفهومي الحضارة والثقافة ندركُ بأنَّ كل ما يخصُ مسألة التقاليد والقيم والدين تُعبرُ عنه مفردة الثقافة، بينما تتجلى الحضارة في المظهر المادي للمجتمع. ونحنُ نقولُ ذلك نفترض وجود سؤال لدى المُتابع وهو أين الثقافة من عالمٍ تداهمه الماديات والسلعُ وتسوده سطوة المظاهر على حد تعبير لينين؟ يُجيبُ إيغلتون بأنَّ الحضارة الصناعية أوجدت بيئة مؤاتية لولادة مفهوم الثقافة ولولا تغول الماديات لما تصبح الثقافةُ واسعة الإستخدام. مُضيفاً كلما جنحت الحضارةُ في طابعها المادي أكثر كانت الثقافة تتبدى أشدَّ رغبةً للتسامي عن الدينوية. فضلاً عن ذلك فإنَّ الثقافة مُفردة وهي مشتقة من الطبيعة. في وقت تشيرُ الحضارة إلى عالم مصنوع مشوه للطبيعة. أربعة معانٍ رئيسية يصحُ وضعها شرحاً لمفردة الثقافة الحفر في الجذور ومتابعةِ تطور مفهوم الثقافة صرعة فكرية يتناول تيرى إيغلتون في فصل آخر من كتابه موضوعة التعددية الثقافية بوصفها سمةً بارزةً لمرحلة ما يسمى بمجتمعات ما بعد الحداثةِ الهجينة نتيجة هيمنة الرأسمالية التي تعتمدُ على نمط إنتاجي غير مُتجانس لا يُنكر صاحب الكتاب أهمية التعددية بل هي جديرة بالرعاية والتعهد إلى أن تُصبحَ أمراً بديهياً لكن علينا الإقرار في الوقت نفسه بأنَّ ليس كل أشكال التجانس أمر مُستهجنُ يجبُ محاربته ونعته بالأُصولية والتطرف من الأفضل أن يكون هناك إجماع على إدانة وشجب الإساءة الجنسية للأطفال. بل البشرية - كما يرى إيغلتون - أحوج ما تكون إلى الإجماع عندما تحدقُ بها الظواهر الخطيرة. ولا وجود لفضيلة ذلك التنوع الذي يبرر غرق قوارب المُهاجرين على السواحل باسم حرية الرأي. فبرأي إيغلتون أنَّ صرعة ما بعد الحداثة تُحول الكائنات البشرية إلى مجرد مخلوقات تقتاتُ على الإختلاف والتمايز وأنَّ أي إشارة إلى الخصائص الإنسانية المشتركة تثير حساسية وتعتبرُ كبح جماحٍ لإختلافات ثقافية. بمعنى أنَّ الإعتقاد بوجود أسس عالمية لوجود إنساني وهم محض. عطفاً على كل ما سبق فإنَّ تيري إيغلتون يميزُ بين الثقافة والآيدولوجيا وأبان خطأ الخلط بين مفهومين لأنَّ الثقافة تُمثل القيم والعادات والتقاليد فيما الآيدولوجيا هي محاولة لتحنيط الممارسات الرمزية والقيم في مرحلة تاريخية معينة. وفي مفاصل كتابه يستندُ المؤلفُ إلى أطروحات الفلاسفة والمفكرين السياسيين منهم إدموند برك الذي عارض سياسة بلاده البريطانيا في الهند وفريدريك شيللر وأوسكار وايلد ولدفيغ فتغيشتاين وكارل ماركس وكلود ليفي شتراوس الذي رأي ضرورة تشرب ثقافة أي فرد من ثقافات أخرى. ويختمُ إيغلتون دراسته بنقد الرأسمالية وإظهار الوسائل التي اعتمدتها لتدجين الثقافة وقتل النزعة النقدية وذلك بدلا من أن تكونَ الثقافةُ أداةً للجم السلطة صارت متورطةً في تضخيمها وتوفر لها عوامل السيطرة. يُذكر أن المترجمة قد أضافت مقدمة ضافية إلى الكتاب وهي تشير إلى مؤلفات صاحب "حارس البوابة" واشتغاله في المجال الأكاديمي في الجامعات البريطانية وقد ذاعت شهرته بوصفه أكاديمياً ماركسياً موضحةً أنَّ كتابه "ما بعد النظرية" يُمثِلُ إنعطافة ثورية في فكر هذا اليساري العتيد، لافتةً إلى نشأة المؤلف وأهمية هذا الكتاب وأسلوب إيغلتون المُطعم بالدعابة والسُخرية. وفضلت لطفية الدليمى أن ترفق الكتاب بمقابلة مع مؤلفه حيث يعلقُ الأخيرُ في إطار الحوار على الأفكار المُنبسطة على مساحة إصداره الجديد وأكثر ما يُلفت النظر في الحوار هو كلام إيغلتون حول عدم إلتفات إلى الجوانب السلبية للثقافة ذاكراً أنَّ الثقافة قد تكون أمراً أشدَّ خطورةً، مع ذلك لا يزال يرى من يختزل الثقافة على إبداعات موسيقية وفنية وأدبية.

مشاركة :