اختار الناقد الأدبي الإنكليزي تيري إيغلتون لكتابه الجديد عنواناً موحياً: «أمل بلا تفاؤل» مشيراً، ضمناً إلى واقع راهن يحتاج إلى الأمل، ومبتعداً عن «التفاؤل» الساذج الذي يستولد «الفرَج» من لا مكان. وللأمل المنشود مرجع أبدي الحضور، يعرفه المؤمنون قبل غيرهم، آيته الإيمان الديني، فقد زوّد الله الإنسان بفضيلة الصبر على الشدائد، ومرجع آخر جاءت به «الأزمنة الحديثة»، يوحّد بين قدرات الإنسان و «الزمن السائر إلى الأمام»، الذي يضع بين يديّ الإنسان ما يريد. حاول إيغلتون، الأنيق الأسلوب الواسع الثقافة، أن يصالح بين جوهر إنساني قديم، لا يقنط من الرحمة، وعقل حديث يرى الظواهر في أسبابها. قرأ المؤلف، في فصل أول عنوانه «عمومية التفاؤل»، العلاقة بين التفاؤل والعقل، إذ لا تفاؤل إلّا بالممكن، حتى لو كان المتفائل واسع الإيمان. ولعل العلاقة بين التفاؤل المعقول، في أسبابه المادية، وهو ما قاده إلى نقد «ساخر» لكتاب عنوانه «المتفائل العقلاني» الذي نشره «مات ريدلي» في لندن عام 2011. وواقع الأمر أن إيغلتون اتخذ من أفكار مؤلف الكتاب، وهو مصرفي سابق، مناسبة لهجاء أمرين: الاحتفال المبالغ فيه بمنجزات الأزمنة الحديثة، والإيمان المفرط بقدرة العقل على توليد التفاؤل، كما لو كان الأخير صناعة بين صناعات أخرى، أو عضواً بيولوجياً قابلاً للتربية والرعاية. ميز إيغلتون بين التفاؤل المشروع، وإيمانية مستبشرة تقترب من الحماقة. ولهذا كان عليه أن يمر، وبمحاكمة محسوبة، على «التفاؤل التنويري» الذي انتسب إليه، مع فروق أكيدة، رينيه ديكارت الذي حلم «بإنسان خالق»، يأخذه بيده العلم إلى حيث يشاء، وكارل ماركس الذي سمح فكره بتأويلات ساذجة، لا علاقة له بها، تنطوي على «الحتمية التاريخية»، التي تحوّل التاريخ إلى حكاية سعيدة، وعلى «البروليتاري الجديد»، الذي يصنع المعجزات، مجسداً تقدم التاريخ وباعثاً على تقدمه في آن. كان فالتر بنيامين، وله موقع واسع في كتاب إيغلتون، قد رفض «التفاؤل» العاجز ورفض معه «المسار التقدمي» للتاريخ، الذي يطلب من الإنسان المضطهد أن يوكل تحقيق ما يريد إلى إرادة التاريخ الغامضة، التي تنتقل من خير إلى خير، من دون تدخل إنساني... ولهذا تحدث بنيامين عن «زمن قيامي»، يكسر الإنسان الثائر فيه «رتابة» التاريخ التقدمي، الأقرب إلى القدرية، ويأتي بزمن جديد، ينصر الأحياء والأموات معاً. رفض الألماني اليهودي، الذي مات منتحراً، أسطورة «المهدي المنتظر»، وتطلع إلى «شكل غير تقدمي للأمل»، ينبثق من «الهنا والآن» وينكر «الإرجاء» وتراكم التاريخ البليد. يكتب إيغلتون: «ما هو ثمين في نظر بنيامين إلى ذلك الركام الواسع المدعو بالتاريخ ماثل في صور سرية غير مرتقبة، تقف كمجرّة من النجوم في سماء قاتمة يتدافع فيها البشر، رجالاً ونساء، لتسريع التاريخ واستقدام السيد المسيح». يستنكر هذا المنظور أيديولوجياً التقدم، التي تحقق ما يريده الإنسان في متواليات زمنية مفتوحة، مكتفية بذاتها، على مقربة من مقاولات الفيلسوف الألماني كانت. لا يقبل إيغلتون «بالمتفائل العقلاني»، الذي يحوّل التفاؤل إلى موضوع تمكن السيطرة عليه، ولا بتصورات بنيامين، التي هي مزيج من النظر الثاقب والأحجية، منتهياً إلى «أمل» متحرر من التفاؤل. ولعل هذا الموقف، الأقرب إلى التأمل الطليق، والبعيد من التصورات القاطعة، هو ما أدرج في الكتاب مادة ثقافة بالغة الاتساع، تتضمن الأدب والفلسفة والتاريخ واللاهوت وتخترقها متواليات من الأسماء المتعددة النزوعات: توما الإكويني، كانت، القديس أوغسطين، غرامشي، غابرييل مارسيل... والمحصلة أن الأمل ضرورة شريطة ألا تعبث به الحماقة، وأن ضرورة الأمل عصية على التحديد، ولا تأتلف مع تعريفات نهائية. في الفصل الثاني من الكتاب، وعنوانه: ما هو الأمل؟ يسأل إيغلتون: «ماذا لو كان الأمل مجرد وهم»؟ ويعيد السؤال في شكل آخر: «هل هناك من فارق بين الأمل والرغبة؟ وما العلاقة بين الأمل والثقة؟ ولأنه يستولد الأفكار ولا يقرر يقول: «لا حماقة، بالضرورة، في أمل لا جدوى منه، وإن كانت الحماقة قائمة في أمل غير معقول»، أو: «ليس من العقل في شيء الأمل في شيء مستحيل، لكنه من العقل أن تأمل، في شيء مرجح»، إلى أن يعود ويسأل بعد صفحات قليلة: هل العقل عاطفة أم أنه تجربة؟ يحاذر المؤلف التعريفات الجاهزة، ويحذر منها أكثر أن كانت بصيغة المفرد، ويكتفي بما يوحي، كأن يكتب «تمكن تربية الأمل بالممارسة والانضباط الذاتي، فالأمل قابل للتعلّم». يؤمن إيغلتون بالأمل ولا يؤمن بإمكانية تعريفه، ذلك أن مفردات «ممارسة، انضباط، قابلية تعلّم...»، مفتوحة الزمن، وترتبط بأفراد، ربما، ولا تشكل قاعدة عامة. ما يتبقى، في النهاية، إنسان مفترض يحتاج إلى أمل مفترض، وتجارب إنسانية متنوعة، تربط الأمل بالعقل، أو تشدّه إلى الإرادة، أو تربك العلاقتين معاً حين تقرأ عن: «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة»، وهو ما قال به الإيطالي أنطونيو غرامشي. أفرد الكتاب فصله الثالث «لفيلسوف الأمل»، أي الألماني إرنست بلوخ، الذي جسّر المسافة بين الفلسفة والأدب، وأعطى كتاباً ضخماً من ثلاثة أجزاء عنوانه «مبدأ الأمل»، قرأ فيه بمنظور ماركسي، غير أرثوذكسي، الديانات السماوية الثلاث. ومع أن بلوخ عرف فترة، كفيلسوف ماركسي، ونسب إلى «الماركسية الغربية» في فترة أخرى، فإنه كان، في الواقع، فيلسوفاً حراً، ساوى بين الماركسية والأمل ورأى في الأخير ضرورة، وجعلها جزءاً من الوجود. ربط بلوخ بين الأمل والمستقبل، بين ما هو معروف وما هو غير معروف. ولأن الأمل ضرورة احتفى بمفهوم «الثقة»، إذ على الإنسان أن يثق بما أمل بمجيئه، فلا معنى للأمل إلا إذا أخلص الإنسان لمعناه، فعاش الحاضر واطمأن إلى مستقبل أفضل منه، وزرع في ذاته ثقة خالصة، تؤمن بأن «المدينة الفاضلة قائمة فينا، ولا نذهب إليها»، طالما أن الأمل جزء من بنية العالم الذي نعيش فيه. «بل إن في الأمل دينامية موضوعية هي جزء من بنية العالم الذي نعيش فيه. دينامية موضوعية، لا علاقة لها بالتاريخ الإنساني فقط، بل بالكون كله أيضاً». ينتهي بلوخ، رغم ماركسيته المفترضة، إلى «إيمانية متفائلة»، إلى أمل يحايث الكون والإنسان، ولا يحتاج إلى تجربة، أو إلى شكل من الأمل المتفلسف، لا يرحب به إيغلتون كثيراً. في كتاب «أمل بلا تفاؤل» ما يطرح السؤال الآتي: إذا كان الأمل قوة إيجابية، ألا يشكل اليأس، وهو نقيض الأمل، قوة إيجابية مغايرة؟ وإذا كان الأمل يوحي ببعض «الخلاص»، ألا يشكّل اليأس المتكامل خلاصاً متسقاً، قوامه إنسان يعتصم بذاته ولا يتكئ على أحد؟ لم يقدّم الكتاب، بداهة، إجابة، بل استقدم كيركيجارد الفيلسوف الذي رأى في اليأس تجربة إنسانية أساسية تفضي إلى الايمان، ذلك أن الوجود الإنساني لا يستقيم إلا إذا عرف أهوال الروح كلها، أو «مرّ الإنسان في أشكال السلب كلها»، كما يقول الفيلسوف. تحيل «قوة اليأس» على الشكل المألوف من «النخبة الروحية»، الممتدة من بودلير إلى غراهام غرين. وبشر هذه النخبة، نساءً ورجالاً، يشبهون «الرجال الجوف»، الذين تحدّث عنهم ت. س. إليوت، فهم فارغون روحياً، كما يقول إيغلتون، وأقل من أن تحلّ بهم اللعنة. سأل الكتاب في فصله الأخير «أمل ضد أمل»: وماذا إذا كان الإنسان يأمل بوصول ما يسعده ووصله ما يدمّر حياته؟ والسؤال على رغم إجابته القاتمة لا يغيّر شيئاً، طالما أن في الأمل ضرورة للمضطهدين الذين يحتاجون الأمل، وأن ثواراً من هذا العالم يدعون إلى «الأمل الجذري»، الذي يغيّر الثوار الحالمين، قبل أن يشرعوا بثوراتهم. لا يضيف كتاب إيغلتون شيئاً إلى معتنقي «مبدأ الأمل»، ولا يغير من يأس اليائسين «قلامة ظفر»، كما يقول العرب، لكنه يقدّم للقارئ المحترف كتاباً رحباً، باذخاً في ثقافته ومعارفه، كما لو كان يعطي درساً نموذجياً في «مسؤولية الكتابة»، قبل أن يطرق أبواب الروح الإنسانية التي يتقافز فيها التفاؤل والتشاؤم معاً. يختصر الأمر، ربما، في جملة لفالتر بنيامين تخالطها السخرية السوداء: وُجد الأمل لهؤلاء الذين لا أمل لهم.
مشاركة :