إدغار آلان بو.. فخاخ السرد

  • 11/22/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الأدب كذب! وأيضاً حقيقة مزيفة، فلطالما صعب تحديد هوية الأدب تحديداً منطقياً، ذلك أنه هو ذاته لا يخضع لمنطق معين. والدليل أنه هو الآخر صاحب النيات المتقلبة بين ما هو سيئ وما هو غير ذلك. إن العديد من الشخصيات المنحرفة والشاذة تتحدث في محرابه بحرية لأنها في منطقة الأدب، والعكس صحيح. وقصة «القط الأسود» لإدغار آلان بو تقترح علينا في سرد عوالمها، منطقة تجمع بين الغرابة والألفة! ولعل هذا التذبذب بين الحقيقة والوهم، بين الاعتراف والغفران، بين المنطق واللامنطق هو ما يجعل منها أدباً ملغزاً على الدوام يحتال على القارئ ليرسخ لديه معنى وحيداً غير قابل للتصديق! تعتبر حياة المبدعين بمثابة رواية أسرية يمكن أن نجد صداها في الإبداع عموما، بحيث لا يمكن أن نغض الطرف، مثلا، عن حياة كافكا وصراعه مع الأب، والتي تتجلى بعض علاماتها في الكثير من إبداعاته، كما أنه لا يمكن أن ننسى أزمات الكاتبة مي زيادة وانعكاس ذلك في أعمالها الرومانسية الشفيفة، غير أن هذه الروايات الأسرية رغم أهميتها بالنسبة للإبداع فإنها ليست هي الحقيقة. في الأعمال الأدبية عموما نجد رواية أسرية مغايرة تزوّر حقيقة ما يروى، والتي يخلقها السارد عموما في أي عمل أدبي لأنه يكون منشغلا بالقبض على القارئ وتحويله بصورة أو بأخرى إلى نهم للقراءة، ذلك أننا نجده يبني عوالم من القص المخادع كي يكون جديرا بالاهتمام وبالثقة، وهذا ما يجعل العديد من الأعمال الأدبية قابلة لأن يعاد تأويلها في كل حين بنفس جديد!. ويمكن أن نجد في حياة إدغار آلان بو مرتعا خصبا لتأويل أعماله بالاستعانة بحياته الخاصة، وأوضح مثال في هذا الشأن هو قصته الشهيرة «القط الأسود». إن الذي يرغب في تأويل الأعمال انطلاقا من حياة كتابها يمكن أن يجد بعض الملامح التي تشير إلى أن الرواية الأسرية للكاتب قد تكون كامنة في الإبداع، والتحليل النفسي بنى العديد من النظريات انطلاقا من الحافز الإبداعي الذي يجعل المبدع شخصا خارج قواعد الحياة المنطقية، بحيث تستمر إبداعاته حية متجددة على مدى الزمن، ويمكن أن نعطي مثالا بمايكل أنجلو الذي أنجز العديد من الأعمال الفنية الرائعة، والتي كان ظهور الأم فيها باردا، في حين يتجلى عشقه لنفس جنسه من خلال العديد من أعماله، إلى أن انتهى به المطاف في الأخير إلى الدين والموت والإحساس بالذنب والرغبة في التكفير (1). قط آلان بو الأسوَد «القط الأسود» نص عجيب غريب يثير الدهشة ويخلق الصدمة للمتلقي، فالسارد منذ البداية يتمنى من القارئ ألا يصدق الحكاية، لذا يرسل بقوة ومنذ اللحظة الأولى بهذه الجملة: «لست أتوقع منكم، بل لست أطلب أن تصدقوا الوقائع التي أسطرها هنا لقصة هي أغرب القصص وإن كانت في الآن عينه مألوفة للغاية». فمنذ الجملة الأولى يشرع السارد في جعل المتلقي في حيرة من أمره قبل أن يسرد الحكاية التي تتمحور حول القط الأسود الذي يبدو أنه الشخصية الملتبسة بالنسبة للقارئ، لأنه على قدر ملفت من الذكاء والجمال، وهو في أعماق زوجة السارد محط شك لأن القطط السود، حسب الاعتقاد الشعبي السائد، سحرة متنكرون. يبدو القط الأسود بالنسبة للأدب عموما، وتحديدا هذه القصة بمثابة حكاية كابوسية ترسخ الفكرة التي يؤكدها السارد بأن القط الأسود هو الكابوس والشر والتدمير... إذ هو أس الجريمة باعتباره المتسبب في قتل الزوجة! ومن ثم يصل القارئ إلى نفس المعنى الذي كان يطمح إليه السارد منذ البداية، أن القاتل الحقيقي هو القط الأسود وليس السارد نفسه. ولكن، هل هو القاتل الفعلي أم الدافع الأساسي لارتكاب الجريمة باعتبار لونه الذي يحدده عنوان القصة صفة لازمة منذ البداية؟ إذ وراء هذا اللون يكمن الشر والمعتقدات والكابوس والمعتقدات والنص الغرائبي. إدغار آلان بو إدغار آلان بو الرواية الأسرية المخادعة (2)! يبدأ السارد نصه باستهلال طويل عن الأدب الغرائبي بصيغة غير مباشرة، فضمن الاستهلال لم يتحدث «بلوتو» هذا القط الشهير في الأدب الأميركي خاصة والعالمي عامة، بل قدم للأدب معنى الغرابة والألفة والرعب والهلع فأنزله منزلة المؤمن بذلك، وعوض الحديث مباشرة عن القط، صاغ للقارئ رواية أسرية مخادعة، وكأنه منذ اللحظة الأولى يسعى لأن يبعد عن المتلقي فكرة الاعتقاد بأنه القاتل الحقيقي! وأنه في النهاية، بالنسبة للجميع، مجرد أداة الجريمة فقط، بينما القاتل الحقيقي هو تحديدا لون القط «بلوتو»! ثم يهيئنا، قبل أن يصل إلى الحديث عن الشخصية الرئيسية غير الإنسانية التي هي القط، إلى الحديث عن نفسه، أو بالأحرى إلى خلق رواية أسرية نحتضنها نحن -القراء الطيبين- كسيرة شخصية عادية جدا. وهنا، سؤال يطرح دوما على الأدب عموما: هل تكتب الحقائق في الأدب وكأنها كتبت بمحض الصدفة أم أن السارد (ووراءه الكاتب تحديدا) يعرف قبلا مآل الشخصية؟ إذا كانت الشخصية هي التي تتطور بشكل تلقائي في النص، فهذا معناه أن كل ما كتب في الأدب عموما هو محض صدفة، وكأن كل الأشياء تطورت لوحدها وهي تنكتب! أم أن وراء الأكمة ما وراءها! ويمكن أن نستحضر بهذا الصدد كتاب تقنيات الكتابة (3) الذي يقر معظم الكتاب فيه بعدم وجود الصدفة بذلك الشكل الذي نقرأ من خلاله الإبداع عموما. سيرة خاصة للسارد يشرع السارد في الحديث عن سيرة مألوفة ومختصرة يقدمها للقارئ بمثابة طعم آسر، فهو ذلك الطفل الوديع، المغلوب بين أترابه، العاشق للحيوانات الأليفة... ولذا فهو يصنع للقارئ الذي يختاره هو، سيرة شخصية عادية ومخادعة، تقول: «عرفت منذ طفولتي بوداعتي ومزاجي الإنساني الرقيق. حتى أن رقة قلبي كانت على درجة من الإفراط جعلتني موضوع تندر بين زملائي. وقد تميزت بولع خاص بالحيوانات مما جعل أبوي يعبران عن تدليلهما لي بإهدائي أنواعا من الحيوانات المنزلية». وقبل أن يتحدث السارد عن القط الأسود وقبل أن يصل إلى سرد منعرجات الحكاية، يخلق لنفسه صورة تستدر تعاطف المتلقي معه كونه إنسانا عاش طفولة عادية ولا تخلو من الابتهاج، وبأن القلق يكمن في الآخر، وهذا ما يجعلنا نستعيد بدقة تفاصيل قراءة اللاوعي النصي الذي يكمن في الدوال الموزعة في النص، وذلك ضمن سياق النص ككل، بحيث نجد أن السارد يعشق زوجته ثم «يقتلها» في الآن نفسه، كما أنه يعشق القط الأسود الجميل ويقوم بتشويهه ثم بقتله، وهو احتيال على القارئ كي يجعله مصدقا لكل هذا التناقض في النفس الإنسانية، ويمكن أن نحيل بالمناسبة، إلى قصيدة «أوسكار وايلد» الشهيرة، والتي تقول بأن الإنسان يقتل الأشياء التي يحبها كي يعيش! فهو يقتل كل الأشياء التي يحب كي يحيا معللا بذلك بما يحدث من نوازع نفسية للقتل أو لاقتراف الذنب لوجه الذنب: «من منا لم يضبط نفسه عشرات المرات وهو يقترف إثما لا لسبب غير كون هذا العمل محرما؟... روح الانحراف هذه، هي التي تحركت تدفعني إلى السقوط النهائي، إنها رغبة النفس الدفينة لمشاكسة ذاتها. لتهشيم طبيعتها ذاتها، لاقتراف الإثم لوجه الإثم». تبدو قدرات الكذب في الاحتيال على القارئ من أقوى أنواع الاعتراف في النص القصصي الذي بني على اعتراف الذات التي تتكلم وتكذب وتحقق وجودها من خلال صرف الأنظار عن القاتل الحقيقي. فالقاتل في اعتقادي، هو السارد، ولكن بمنظور السارد هو كل ما يحدث في عالم آخر غريب عن النفس البشرية، وهو الفاعل الحقيقي أو، على الأقل، هو المحفز على الفعل. سارد مختل ومحتال تشكل هذه الأنواع من النصوص أدبا لا يمنح كل أسراره للقارئ، وهي بذلك تفتح قدرات خارقة للاحتيال وكأنها تبني قناعات بواسطة الكذب، ويرى الباحث «مكسيم ديكوت» في كتابه «قدرات الاحتيال»، بأن هذا النوع من الإبداعات تتأرجح بين الشك والحقيقة، والتي تضع قارئها في اللايقين، ولا تمنحه النية (4) البتة وتتركه فريسة للقلق. إن السارد الذي يخلق القارئ بواسطة العديد من الطرق التي تستدر عاطفته بحيث تجعله في وضع المصدق والعاشق للقاتل/‏‏‏ السارد، هذا السارد يتوسل الغفران بعد كل اعتراف، ولذا نجد العنف الذي يحدثه للقط الأسود مبررا ولا نملك معه سوى الأسى والمغفرة لأنه فعل لاإرادي، ونسمع هنا صوت السارد وهو يتألم: «إنني أحتقن، أحترق، أرتعد حين أكتب تفاصيل هذه الفظاعة الجهنمية»، «شنقته والدموع تتدفق من عيني». فالسارد الذي يقترف كل هذه الجرائم يقدم تفسيرا غرائبيا لكل ما يحدث، فبعد قتل القط الأول، يجد قطا شبيها به، ويحضره إلى المنزل، ويعتبر هذا القط الجديد بمثابة الرابط بالأشياء الغريبة التي تحدث للسارد، وهو ما تترتب عنه جريمة أخرى تمثلت في قتل الزوجة واختفاء القط الثاني، وتبدو جريمة قتل الزوجة مبررة وكأن الحبكة الأساس الملغزة هي في علاقة السارد بالقط فقط. إن قتل الزوجة جاء نتاج العلاقة الغرائبية لكل ما يحدث من أشياء خارقة للعادة تحدث للسارد، ومن ثم تنطلي على المتلقي حيلة قتل الزوجة ضمن حبكة مخادعة لا أثر لترصد القتل فيها، وينجر القارئ وراء كل الإيحاءات وينسى أن قتل الزوجة فعل شنيع يستحق العقاب، لأن السارد اقتاده لأن يصدق الجريمة التي حدثت لاإرادية، وإنما هي فعل شيطاني لا يتحمل تبعاته. القارئ مصدقا للسارد؟ هل يؤمن القارئ على كل ما يسرده السارد الذي يبحث عن التصديق بواسطة وضع الأسباب والنتائج بشكل منطقي؟ ألم يقدم الكاتب نفسه على خداعنا بواسطة تقديم شخصية لطيفة في ظاهرها، مخادعة في عمقها خدرتنا بواسطة حكي يستلزم التحقيق البوليسي عوض تقبل الغرائبي؟ هل يخفي تصنيف قصة القط الأسود في خانة الحكاية العجيبة على القارئ عنصر الجريمة فيجعله لا يعيره أي انتباه؟ أسئلة تظل مفتوحة على تآويل عدة، ولعل العديد من الأبحاث أعادت النظر في طبيعة «القتلة» داخل النصوص الأدبية مثل ما فعل بيير بيار في كتابه الشهير «من قتل روجير أكرويد؟» وهي رواية لأغاثا كريستي، فقد أعاد النظر في هوية القاتل انطلاقا من إعادة بناء تحليل آخر، وكأنه أعاد بناء الرواية واضعا بذلك مفاهيم أخرى ترى بأن السارد غالبا ما يكذب وهو يعترف (5). لا ينغلق نص «القط الأسود» على تأويل وحيد منعزل، فهو يظل متعدد الوجوه، ولعل معظم أعمال إدغار آلان بو تمضي في نفس المسار، فهي تبوح بأشياء غير التي تخفيها بمكر آسر، ولعل ذلك المكر هو ما أكسبها قوة التأويل وقوة الانتشار والنفوذ. الطُّعم الآسر السيرة التي يقدمها السارد في بداية القصة ليست سوى طُعم آسر، فهو ذلك الطفل الوديع، المغلوب بين أترابه، العاشق للحيوانات الأليفة... ولذا فهو يصنع للقارئ الذي يختاره هو، سيرة شخصية عادية ومخادعة. الكتابة الماكرة لا ينغلق نص «القط الأسود» على تأويل وحيد منعزل، فهو يظل متعدد الوجوه، ولعل معظم أعمال إدغار آلان بو تمضي في نفس المسار، فهي تبوح بأشياء غير التي تخفيها بمكر آسر، ولعل ذلك المكر هو ما أكسبها قوة التأويل وقوة الانتشار والنفوذ. ................................. المراجع 1- BESDINE(Mathew): «Complexe de jocaste، maternage et génie»، in: «psychanalyse du génie créateur»، p 169,170,171، bordas 1974. 2- تمثل الرواية الأسرية عموما مفتاح الكثير من الهويات في الأدب، وقبل الأدب عرف فرويد في مقاله الشهير «رواية العصابيين الأسرية» الذي اكتشف فيه أن كل فرد له رواية أسرية تحدد مساره، -Freud (sigmund): (le roman familial des névroses، in: névrose، psychose et perversion، paris، p 157,158,159، PUF، 1981. 3- تقنيات الكتابة (القصة القصيرة والرواية)، ترجمة رعد عبد الجليل جواد، دار الحوار، سوريا، 1995. 4-Maxime decout: «pouvoirs de l’imposture»، p 12، les éditions de minuit، 2018. 5- بيير بايار: «من قتل روجير أكرويد؟، الرواية البوليسية والتحليل النفسي»، ص 31,32، ترجمة وتقديم حسن المودن، دار رؤية، مصر، 2015، ترى الدراسة بأن الروائية بجعلها السارد قاتلا، تكون قد انتهكت عنصرا جوهريا في ميثاق القراءة الضمني الذي يربط بين مؤلف الرواية البوليسية بجمهوره، وأنها بذلك تكون قد مارست الغش والخداع.

مشاركة :