إدغار آلان بو.. ما لا نعرفه عن أنفسنا

  • 10/12/2020
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

إدغار آلان بو كاتب مخيف بحق، ثمة ضرب من الكُتاب هكذا، فهو لا يُعرّفك؛ من خلاله قصصه الغامضة وأشعاره شديدة الإلغاز، على نفسك، أو يهديك إلى ذاتك، ولكنه يطلعك على ما لم تكن تعرفه عن نفسك أصلًا! إن إدغار آلان بو _من جهة حياته وكتاباته_ طعن في المثالية، ودحض لها نظريةً وممارسة، أليس هو القائل في حكايته العبقرية الغامضة «القط الأسود»: «أليس لدينا ميل دائم، حتى في أحسن حالات وعينا، إلى خرق ما يعرف بالقانون لمجرد علمنا بأنه قانون؟!». إنه يقول لك، وبصريح العبارة، إنك لستَ كما تدعي أو تظن، بداخلك وحش كامن، ينتظر الفرصة للانقضاض على فرائسه. لا تظن أن الرجل من كارهي الجنس البشري، ولكنه أُوجع كثيرًا، وعانى الويلات على شتى الأصعدة؛ حيث خانته امرأة كان يحبها مع رجل آخر، أما قريبه جون آلان فجرّعه كأس العذاب صنوفًا وألوانًا؛ لذلك لم يكن متوقعًا منه أن يخبرك بأن العالم وردي أو فردوس أرضي نحيا فيه. والمؤكد أن قراءة إدغار آلان بو تتطلب شجاعة وافرة، ومخالفة للتيار السائد الآن، لا سيما أن الرأسمالية صنعت أدبها الخاص، وكرّست ما يعرف بـ «التنمية البشرية»، تلك التي لا تهدف سوى إلى صنع عالم متوهم وبديل لا ينتمي إلينا ولا ننتمي إليه. لكنك إن كنت شجاعًا بحق، واقتربت من عوالم هذا الرجل الحزين والمترع بالآلام فستجد لديه ما لن تجده عند غيره، ويكفيه شرفًا أن شاعر فرنسا الفذّ «شارل بودلير» كان دائمًا اللهج باسمه، والإحالة الدائمة إليه. غادر جسد إدغار آلان بو العالم في السابع من أكتوبر عام 1849م، واحتفاءً بهذا الكاتب الفذّ، وإشادة بتجربته الشعرية والقصصية يقدم «رواد الأعمال» بعض الإلماحات حول حياته ومؤلفاته، وذلك على النحو التالي. اقرأ أيضًا: جان أنويه.. صراع المثالية والواقعيةفتنة الحلم والجنون لدى ميشال فوكو؛ الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير، وجهة نظر غريبة حول مسألة الجنون تلك، إنه يرى أن الجنون لغز لأنه معرفة. «فعندما ينشر الإنسان جنونه الاعتباطي _حسب قول «فوكو» في كتابه ذي المجلدات الثلاث «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي»_ سيكون وجهًا لوجه مع الضرورة الغامضة للعالم». وبحسب ظني فإن إدغار آلان بو كان ماهرًا في نثر هذيانه وجنونه، لا أستطيع الجزم بأنه كان يحلم، أثناء نومه القلق، بقصصه وصور قصائده، فلا سبيل لي إلى تأكيد ذلك، لكنه كان غارقًا حتى الأذنين في عالم غامض، حالم، ومتخيل. هذا العالم بالذات هو الذي طبع كتاباته، وميزه هو نفسه أيضًا، فمن المؤسف أن يكون الألم ضريبة الكتابة. وعلى الرغم من عدم قدرتنا على الجزم بكون إدغار آلان بو كان مجنونًا من ناحية التشخيص السريري، فإن الجنون هو ما ميّز هذا الشاعر العبقري، لا يجب على الكاتب أن يكتب إلا إذا كان مأخوذًا بفتنة عوالمه الغامضة والداخلية، وإلا فماذا يمكن بوسع كاتب غير مجنون أن يقول؟! اقرأ أيضًا: ويليام موريس وتطوير نظرية الصنعة اليدويةألم الموهبة إدغار آلان بو كاتب غير تقليدي؛ فقط لأنه متعدد المواهب، فهو، أولًا ناقد أدبي، وراقه جدًا حالما كان يعمل كمحرر في مجلة أدبية في ولاية فيرجينيا أن يبحث عن نقاط ضعف كل عمل أدبي يحاول أن يتصدى للكتابة عنه، بل إنه كان يسخر من رجال الشرطة أنفسهم، عندما كانوا يحققون في جريمة ما؛ لإغفالهم بعض التفاصيل الصغيرة والدقيقة. هذه السخرية، حسب تأويلنا الشخصي لكتابة إدغار آلان بو؛ نابعة من سخريته من الحياة والوجود، أو بالأحرى حياته هو نفسه. واتخذ الرجل من السخرية، والرمز في مرحلة لاحقة، معينًا له في تحمل وطأة الوجود ومآسيه الشخصية. كان الرجل شديد الألم لأنه كان متعدد المواهب كما قلنا سابقًا، ولكنه ثانيًا كان شاعرًا، بل هو واحد من أشهر من كتب القصيدة النثرية، وفي القصة القصيرة فأنعم به وأكرم. يمكننا القول إن إدغار آلان بو تألم على نحوين: من ناحية حياته الشخصية، ومن جهة موهبته التي أرقته وأرهقته كثيرًا؛ لكنها وضعته في مصاف أبرز الكتاب الكبار ليس في الولايات المتحدة وحدها بل في العالم. اقرأ أيضًا: آلفين توفلر.. لا نهاية للتاريخفخ الكتابة الذاتية يترائى لي أنه يصدق على إدغار آلان بو قول ميلان كونديرا في روايته «المزحة»: «لقد كنت موضوع قصتي أكثر من كوني مؤلفًا لها»؛ فنحن لن نعدم أواصر شبه بين حياة «بو» الشخصية وكتاباته، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، وبدون الدخول في تلك المسألة حول ذاتية الكاتب أو واقعيته، لا أرى أن في الكتابة الذاتية عيبًا، فالطبيعي أن المرء يرى العالم بعينيه هو، ويحاول أن يقدمه على عبر قصصه وقصائده، وبالتالي لا مشكلة هنا، طالما أن هذه التجربة الذاتية لم تعد سجنًا للكاتب، ولم تجعله أسير تصوراته الخاصة.سيرة حياته وبعد هذا التأويل الذي قدمناه لأعمال إدغار آلان بو يجمل أن نعرّج ولو على نحو خاطف على سيرة حياته الشخصية، فالكاتب وحياته وجهان لعملة واحدة.وُلد إدغار بو؛ في 19 يناير 1809 م في بوسطن، وكان الطفل الثاني لاثنين من الممثلين.هجر والده الأسرة في عام 1810، وتوفيت والدته في العام التالي. وهكذا أصبح يتيمًا وتولى رعايته يوحنا وفرانسيس آلان، من ريتشموند بفرجينيا.حضر بو في جامعة فرجينيا لفصل دراسي واحد، لكنه تركها؛ بسبب عدم وجود المال.تشاجر جون آلان مع إدغار آلان بو على الأموال من أجل التعليم، وجند في الجيش عام 1827 تحت اسم مستعار.وكان في هذا الوقت بدأ حياته المهنية في النشر، ولو بتواضع، مع مجموعة مجهولة من القصائد، تيمورلنك وقصائد أخرى (1827).مع وفاة فرانسيس ألان في عام 1829، ووصلت علاقة بو وآلان إلى تقارب مؤقت.فشل إدغار آلان بو كطالب ضابط في وست بوينت، وأعلن عن رغبة جامحة في أن يكون شاعرًا وكاتبًا.فاز «بو» في مسابقة، حين كتب قصة قصيرة في سن 24 وأصبح بالتالي ناقدًا أدبيًا لصالح مجلة “رسول الأدب الجنوبي”.بعد ذلك بفترة قصيرة، تزوج بنت عمه، فرجينيا، وكان ذلك عام 1836 حيث كان إدغر في سن السابعة والعشرين.أصبح آلان بو مشهورًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة حين نشر عمله “الغراب” في عام 1845م.واصل كتابة القصص القصيرة الرائعة، مثل: القط الأسود، القلب الواشي، بضع كلمات مع مومياء، الحشرة الذهبية.وبعد وفاة زوجته في عام 1847، انهار إدغار آلان بو عاطفيًا وتوفي بعد ذلك بعامين، في سن الأربعين. اقرأ أيضًا: لويس أراغون.. المثقف الذي لم يتخل يومًا عن الإنسان أنطونيو تابوكي.. الدفاع عن الحق والإنسان أرتور شوبنهاور.. فيلسوف الحرية والإرادة

مشاركة :