جدة.. أم الرخاء والشدة

  • 11/25/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كنت أذهب إلى جدة بانتظام، قبل أن أختار الاستقرار في الرياض، في تلك الأيام الخوالي كنت أركب التاكسي من المدينة إلى جدة، وكانت غرفتي الفندقية، كرسي شريط في طريق المدينة، أو طريق مكة، بريالين في الليلة، والمواصلات بواسطة خط البلدة، والأكل غالباً لا يتعدى فول «القرموشي» أو «شاورما» شاكر! أما الهدف من وراء تبذير كل هذه التكاليف، فلم يكن يتعدى البحث عن شلة كتاب القصة، الذين لا يقلون بؤساً مادياً عني، كنت أبحث عن الكتب والمجلات، ولقاء الأساتذة الكبار (عبدالله مناع وعبدالله جفري وسباعي عثمان)، في سبيل هذه الغايات، كنت أعاني الأمرين من الرطوبة، مستغرباً كيف يتصالح سكان هذه المدينة الساحلية، مع هكذا طقس رطب ولزج؟ في جدة رأيت للمرة الأولى الفئران العائلية، التي يماثل حجمها حجم القطط، وفي جدة رأيت الهامشيين في العلوي وسوق الندى وباب مكة وباب شريف، وفي هذه المدينة رأيت «البرجزة» في أكثر معانيها تجلياً، الغليون والقهوة التركي والسيارات المكشوفة والشواطئ، وفيها وجدت من يسمع «فيروز» والموسيقى الكلاسيك، هناك سمعت من يتحدث عن بيتهوفن وباخ، وكنت خلال كل ذلك أتساءل: كيف يتعايش كل هذا البذخ مع هذه اللزوجة في الطقس؟ لكن الأيام تدور، لأجد نفسي بعد سنوات من الإقامة الدائمة في الرياض موعوداً بعقد عمل في إحدى الصحف، لم يستغرق اتخاذ القرار للاستقرار في جدة الكثير من الوقت. أعدنا الشقة إلى صاحبها وضبينا العفش، لكننا حالما استقررنا في مدينة الرطوبة العالية، تمثل أمامنا الطقس الذي نسيناه، رطوبة خانقة، وقبلها عقد عمل لم يلبِّ الطموحات. ساعات طويلة وممتدة من العمل، لا وقت للمنزل ولا للأصدقاء، ولم يستمر المقام،أقل من عام لنعود إلى مكاننا السابق، وجدت بعد تلك الرحلة القصيرة، أنني من عشاق الصحراء الممتدة، بتقلب طقسها وغبارها وحرها الجاف وهوائها العليل، مدينة لا حواجز جبلية تحدها، والأكثر من ذلك كله، لا رطوبة! هذه الرطوبة الخانقة، التي يعاني منها كل من ينزل جدة للمرة الأولى، سجلها المستشرق «جيرالد دي غوري»، عندما زارها قبل أكثر من نصف قرن: «إن حر جدة هو من الشدة بحيث إن الجرائد، في أسوأ الحالات، تتحول إلى خرق ممزقة، وأعواد الثقاب ترفض الاشتعال، والمفاتيح تصدأ في الجيب. الحر والحشرات يبقيان المرء مستيقظاً طوال الليل. كان الهرب هو الصلة الوحيدة إلى أوروبا في ذلك الوقت بواسطة الباخرة الأسبوعية، التي تستغرق خمسة أيام للوصول إلى السويس، فكان علي أن انتظرها!»، لكن المفارقة التي سجلها «دي غوري» هي أن من يعتاد هذه المدينة لا يجد لها بديلاً!، حتى إن سكان هذه البلدة مختلطون جداً» وثمة من سكانها قلة من العرب تعدادهم حوالي ثلاثين ألف نسمة. لكن الأكثرية من الهنود والجاويين والأفارقة والصينيين وحتى البخاريين والروس، حجاجاً ومقيمين، يختلطون في شوارعها، وتشكيلة الملابس التي ترتدى في جدة، ربما كانت أوسع مما هي، في أي بقعة من العالم!»

مشاركة :