من يدخل معابد الفراعنة سيرى تماثيل لملوك ورموز مادية لإلهة مثل العجل أبيس، وبنظرة سطحية يتبادر في ذهنه أن أجدادنا كانوا يعبدون أوثان، وإن آلهتهم كانت من حجر أو بشر أو حيوانات ويوجد من يروج لهذا الفكر بسطحية وجهل شديد، فالذي بنى الأهرامات واستطاع أن يصل إلى حضارة التحنيط واكتشاف الأجرام السماوية قبل اختراع التلسكوب هل يمكن أن يعبد أصنام؟! ويسقط هذا التصور تمامًا حين نقرأ أناشيد العبادة التي تحدد مفاهيم الألوهية ونظرتهم للحياة والموت.وبداية لا بد أن نعرف أنه بمقدار ما كان العقل البشري يسمو في الحضارة والفكر بمقدار ما كان يشرق اللـه فيه بحكمة إلهية تؤهله فيما بعد لقبول الإعلان الإلهي الذي تم بالوحي في الديانات السماوية، فالحضارة والرقي العقلي والروحي عند المصريين شكلت روحانية خاصة جعلت مصر لها مكانة روحية عميقة حين قبلت الديانات السماوية.ونعود إلى العقيدة المصرية القديمة فقد آمن المصريون بالإله الذي خلق الكون ويتحكم في الحياة والموت. وحتى يستطيعوا أن يتعاملوا معه على مستوى شخصي، فقد صاغوا صورًا وأشكالًا لقوته الإلهية التي تعطي الحياة والخلود في أوزوريس، والخالق في رع، والمخلص من الشر في حورس، فصنعوا أشكالًا وصورًا لقوة اللـه المتجسدة التي يعمل بها في وسطهم ولكنهم أبدًا لم يعبدوا هذه الصور. وكانت أناشيدهم وما سنراه من تعبيرات عن الإله في نصوص الأهرام تخبرنا بهذا، فعبدوا الإله وأعطوا له اسم "أمون" وهو يعني "الإله العظيم الخفي". وفي نشيد رائع يسمى "نشيد إيدن" يقولون فيه: "أمون الذي أنجب نفسه، في البدء دون أن يعرف سره، لم يوجد قبله إله ولم يكن معه إله آخر، ليس له أم أو أب، هو من قال أنا هو القوي الغامض الميلاد. الإله الذي جاء للوجود من تلقاء ذاته، لا يعرف المرء مظهره أنه أبعد من السماء، أنه أعمق من الجحيم، أن صورته لا تبسط في مطوي الكتب".وانظر في هذا النشيد يقولون إن الإنسان لا يعرف مظهره أي شكله وأن صورته لا ترسم في الكتب، وهذا يدل على أن العقيدة الداخلية للفكر الديني بعيدة تمامًا عن الوثنية التي تقوم على عبادة الشكل والمادة.وفي إحدى نصوص التوابيت وجدوا هذا النشيد الرائع للإله "بتاح" الذي كان يخلق بقلبه أي بالحب ولسانه أي كلمته: "أني أنا الخالق أنا الروح الحي.. أنا المخلص وأخلص كل شيء".وفي الفصل السابع عشر من كتاب الموتى نجد النص الرائع على لسان الإله العظيم: "جاءت الكلمة إلى الوجود، كان لي كل شيء حينما كنت وحيدًا، كنت رع في كل تجلياته، كنت العظيم الذي أتى إلى الوجود من ذاته".فقد كانت فكرة الإله العظيم الواحد في فكر المصريين في كتاب الموتى الذي يؤرخ عام 4000 ق.م. وكانوا يؤمنون أنهم سيقفون أمام الإله ويعطون حسابًا ويقول له: "لم أرتكب خطيئة ضد الناس، لم أترك أحدًا يتضور جوعًا، لم أتسبب في إبكاء أي إنسان، لم أطرد الماشية من مرعاها، لم أنطق كذبًا، لم أكن طماعًا، لم أسبب تعاسة لأحد، لم أرتكب خطيئة تدنس نفسي".وكان يقف أمام إله الخلود أوزوريس يقول: "يا من يسكن كل خفايا الحياة، يا من تحصي كل كلمة أنطق بها، قلبك مفعم بالحزن والخجل لأني ارتكب في العالم من الذنوب ما يفعم القلب بالحزن، ألا تسالمني وتحطم الحواجز بيني وبينك، مر أن تمحى ذنوبي وتسقط منسية، امح العار الذي يملأ قلبي حتى أكون أنا وأنت في هذه اللحظة في سلام".وكانت كثرة الرموز والصور ترجع إلى كثرة الصفات التي كانوا يرونها في الإله الواحد. وبالطبع كانت تعبر أزمنة جهل يقل فيها التعليم العميق لهذا الفكر فينزلق البعض في عبادة الرمز. وهذا ما جعل أخناتون (1379 ق.م.) يعمل ثورة دينية لمحو كل صور وأسماء ورموز الإله ليجعل اسم واحد فقط وهو "أتون".وهناك خطأ تاريخي يروجه غير المدققين في التاريخ أنه هو أول من نادى بالإله الواحد وهذا خطأ فقد كان المصريون يعبدون الإله الواحد، كما رأينا. ولكنه كان يريد أن يخلص الفكر الديني من الشوائب والصور المختلفة التي كانت تشوش على فكرة الإله الواحد. وهذا نراه في أحد أناشيده التي قال فيها: "كلمات رع ألقيتها إليك الإله علمني إياها وكشف لي عن خباياها". و"رع" هو اسم الإله العظيم قبل أخناتون وقد نادى بإن يعبد اللـه بعيدًا عن كل تصور بشري ونادى بالسلام والحب لكل البشرية فقال في إحدى أناشيده: "أتون الحي مبدأ الحياة، إيها الإله الواحد الذي ليس لغيره سلطان، يا من خلقت الأرض كما يهوى قلبك حين كنت وحيدًا، ما أعظم تدبيرك يارب الأبدية، أنك في قلبي، أن العالم في يديك فإذا أشرقت دبت فيه الحياة، لأنك أنت الحياة والناس يستمدون منك الحياة".وقد كانت الأساطير هي الصور العقلية المقدسة التي بها يخبر الكهنة عن الإله الذي يعبدونه فلقد كانت هذه تجسيدًا لقرب الإله وتفسيرًا لمنطق يصعب تجريده ووصفه دون رمز أو قصة كما يقول العالم "كليفورد" "البشر مخلوقات تصنع رموزًا وتعطى مفاهيم لها".عزيزي القارئ هل بعد كل هذا يمكن لأحد أن يظن أن المصريون عبدوا أوثان لقد عبدوا قوة اللـه الخالق الواحد الذي يهب الخلود ويحاسب البشر وهو الذي يرعى الخليقة وهذا هو الإيمان الشعبي لكل المصريين.وما يؤكد ما ذكرناه أن القديس مارمرقس حين دخل إلى الإسكندرية وتمزق حذائه ودخل عند إسكافي يدعى أنيانوس، وبينما يصلح له الحذاء دخل المخراز في إصبعه حتى صرخ يا اللـه الواحد. وحين سأله القديس مرقس: "هل تعرفه؟" فقال له: "نؤمن بوجود الإله الواحد" وكان هذا مدخلًا لإيمانه بالمسيحية.في هذا المناخ الحضاري والروحي دخل الرومان إلى مصر بإلهة جديدة وكانوا يحاولون أن يطمسوا حضارة مصر الفرعونية ويحولوا المصريين إلى رعايا رومان ليست لهم هوية خاصة وهذا ما رفضه المصريون.
مشاركة :