ورحل عصام خوقير مكرما عزيز نفس

  • 11/29/2018
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

رحم الله الوالد الدكتور عصام محمد علي عبدالوهاب خوقير، أو كما يحب أن يلقب بأبوهالة. جمعتني المصاهرة بهذا الرجل الجميل المظهر والمخبر، الذي كلما دنوت إليه وجدت فيه لمسات إنسانية خالصة، وتعرفت منه على خصال عديدة طيبة، ميزته عن كثير ممن عرفت. ولد ونشأ في مكة المكرمة أم المدائن، وتعلم في كتاتيبها ومدارسها، وتخرج من مدرسة البعثات التي أسست لتأهيل المجتهدين والمتفوقين من أبناء أهالي مكة ومن يسكنها لابتعاثهم على دفعات لتلقي مختلف العلوم التخصصية والمهنية الجامعية، للمساهمة مع أقرانه في دعم خطى بلاده في مساعي تنميتها والمشاركة في نهضتها، وكانوا بدورهم من اللبنات الأولى التي ساهمت في بناء الدولة السعودية الحديثة، وقدوة لغيرهم ممن التحقوا ببرنامج البعثات الحكومية على دفعات متتالية، وتميزوا بجدهم واجتهادهم، وجمعوا بين النهل من العلم النافع والخلق القويم ومن بعد ذلك العمل الصالح. ولأنه من سكان مكة فقد سكنت مكة فيه بكل ما فيها من عروق وأجناس وعادات وقيم وثقافات، وذلك مما ميز أبناءها عن غيرهم، وكان دافعا ومحركا دائما ساعدهم في سرعة التواصل والانسجام مع نظرائهم في كليات جامعات مصر العريقة، وكان أن التحق بكلية الطب بجامعة القاهرة، وقبل مرحلة التخصص صادف أن عاد في إجازته السنوية إلى مكة، وكانت شقيقته الصغرى السيدة زين خوقير تعاني من التهاب شديد في اللثة، وكادت أن تفقد أسنانها، وفوجئ يرحمه الله بوالده الشيخ محمد علي يأمره بأن يعالج شقيقته، حيث إنه الطبيب الوحيد في العائلة التي علقت عليه آمالها في تخفيف المعاناة عن ابنتهم الصغرى، فقام بذلك على أكمل وجه، وكان للعمة زين أن احتفظت بأسنانها، وكان له أن يختار تخصص طب الأسنان كمهنة زاملته طيلة حياته، وأمسى من روادها الأوائل في بلاده. ولأنه إنسان ودود سريع البديهة حلو المعشر مرح الطباع وصاحب قلم بارع وفكر متفتح على الغير، لا يعرف التكلف ولا يحمل في صدره إلا اللطف ومحبة الناس، مهما تعددت مشاربهم وخلفياتهم، فقد حظي بحب بادله فيه كل من عرفه عن قرب أو تعرف إليه خلال مروره وتواجده في محطات حياته المتعددة، سواء في مكة أو القاهرة أو المدينة المنورة، حيث عمل فترة في الشؤون الصحية بها وأشرف عليها، وساهم في الحركة الأدبية والثقافية النشطة من خلال كتاباته في صحف مثل البلاد السعودية والندوة والمدينة، حتى شارف الحلقة الرابعة من عمره دون زواج، وصار يلقب برئيس نادي العزاب. وفي إحدى قفشاته مع جلسائه ومحبيه أثناء سكناه في المدينة تحداه أحد الأصدقاء بأن يزيحه من رئاسة النادي، وأصر عليه أن يقدمه لعروس تليق به، وتكسر طوق العزوبية الذي كان متشبثا به لأبعد الحدود حينئذ، ولأنه كان مجاملا من الدرجة الأولى لا يبارزه في ذلك أقرانه، فقد طاوعه وذهب به إلى بيت العم حمزة بكرمديني والد العروس الموعودة، وخالتها كانت السيدة الحبيبة أم السعد، رحمها الله، والدة السفير السابق أسعد عبدالكريم أبوالنصر، رحمه الله، وهناك كان اللقاء بالسيدة هند الفاضلة التي كسرت طوق عزوبيته، وكسب صاحبه التحدي، واستسلم بعدها الدكتور عصام زوجا مثاليا وأبا رؤوما وراعيا لعائلة من خمس بنات، أكبرهن هالة التي ولدت في المدينة، ثم جاءت هويدة وهديل وريم، وأصغرهن رنا، اللواتي ولدن في جدة، حيث استقر بالعائلة المقام فيها. مما ميز هذا الأب الإنسان حجم عطفه على أهله وأسرته جميعا، وسعة صدره في معالجة أمور صغيرهم وكبيرهم. شدتني إليه خفة روحه وضحكته ذات القهقهة العالية النبرة، النابعة من قلب لا يعرف إلا الحب والمودة وبراءة الطفولة في علاقته بأسرته، وشهامة ولد مكة في معالجته لشئونهم وتخطي مشاكلهم. أذكر عن قرب مدى حرصه وعطفه على عمه أسعد خوقير وباقي أفراد عائلته، وصدق مشاعره نحو شقيقه الأكبر محمد، والأوسط أحمد، رحمهما الله، وتعلقه بأبناء وبنات شقيقه أحمد، وتفانيه في متابعة شؤون أخيه الأصغر عبدالوهاب، وإخلاصه لشقيقته الصغرى زين أم عادل محمد صالح آشي وأبنائها، ووفائه الشديد لشقيقتهم الكبرى التي كانت بمثابة الوالدة لهم، وهي السيدة فاطمة أم الدكتور نزار، ووالدة الدكاترة زاهر ووائل وجليلة ورباب والمرحومة البتول، أبناء المغفور له الشيخ محمد فتيح مغربي. أما ما ميزه كأديب وقصصي فكان خياله الجامح للحكاية وحبكتها بلهجة حجازية تجعل منها كمرآة قريبة لواقع المجتمع المحلي، وتعكس روحه بلا تكلف أو مواربة. ويزيد شغفه في الكتابة متى أمسك بقلم رصاص، وكراسة مدرسية بسيطة، ولي الشيشة مع رشفة من بيالة شاهي، وسط جمعة عائلية عادية، وحبذا لو تخللتها وجبة المبشور التي كان يهوي طهيها بنفسه. خاض الدكتور عصام في بحر الحياة بما لها وما عليها، بحلوها ومرها وترحها وفرحها، وكان دوما يتخطاها مرفوع الرأس وأكثر حكمة وقناعة بما قسمه الله له وقدره عليه. سعى بما يسره الله له من أخلاق حميدة وطباع رقيقة إلى تربية وتنشئة بناته وأسرته على قيم دينية ودنيوية معتدلة، وسترهن في حياته. وحينما أزفت ساعته للقاء وجه ربه كان له ما رجاه بأن يتوفاه الله مكرما عزيز نفس كما كان حيا. جعله الله ممن وعدهم في كتابه الحكيم: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي.

مشاركة :