“جُرَش الأثرية”.. قصة حضارة عريقة سادت 6 قرون

  • 11/30/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

” جُرَش الأثرية ” بقايا مخلاف وحضارات متعاقبة جنوب الجزيرة العربية سادت ذات قرون وأعوام ثم ما لبثت أن بادت ، وبقيت شواهدها دليل على فتراتها وتحولاتها المتلاحقة ، وما قام به إنسانها آنذاك من تطويع لمعطيات مكانها، لتبرز “جُرش حاضرة المخلاف” كمدينة حضارية وزراعية وصناعية ذات حرفية تميزت بالحصانة والقوة.فمنذ آلاف السنين ما قبل الإسلام وبعده ، وإلى نهاية القرن السابع من الهجرة كانت ” جُرش” ذات مكانة وموقع هام كنقطة التقاء ، ومحطة وقوف على طريق الحج القادم من اليمن والمسمى بدرب البخور، فيما أظهرت دلائل على الاستيطان خلال الفترة العباسية في شمال ووسط موقعها، ودلائل أخرى على الاستيطان جنوب موقعها تعود إلى الفترة الإسلامية الوسيطة والمتأخرة.وها هي ” جُرَش البائدة ” تتوسط الآن بأطلالها ومكانتها التاريخية محافظة أحد رفيدة شرقيّ أبها ( 30 كيلومتر ) ويقف جبليها الحارسين لها، المعروفين بجبل “حمومة ” الواقع في جهتها الشرقية، وجبل ” شَكَر” الواقع غربها الذي أطلق عليه هذا الاسم خاتم الأنبياء سيدنا محمد صلَى الله عليه وسلم بديلاً عن إسم ” كَشر ” وذلك بعد أن اعتنق أهلها الإسلام .” وكالة الأنباء السعودية ” في مهمة البحث عن تفاصيل مكانها وحضارتها تلك .. وقفت ميدانياً على شواهدها التاريخية المتبقية للعيان في موقع ” جُرش ” التي تدل بقاياه على هندسة البناء وفنونه وتعكس ملامح القوة والمناعة والحضارة وتحتفظ بتاريخ ممتد، ولعل ما تم نقشه على إحدى صخور المكان من رسم منفذ بالحفر البارز لأسد ينقض على ثور ، وقد كتب تحته بالخط المسند عبارة ( ثورن نعمن وأسدن ملقا ) ، دليل على ذلك، حيث أشارت المعلومات التاريخية أن هذا النقش هو دليل القوة والحصانة الذي يعود تاريخه إلى القرن الأول الميلادي .وذاع صيت ” جُرَش ” كمدينة حضارية للمخلاف احتضنت مصانع دباغة وفخاريات والدبابات والمنجنيق، والتي اشتهرت بصناعاتها الجلدية والحربية ومنها المنجنيق والعرادات وما كان يعرف باسم الدبابات وهذا ما تم توثيقه عبر صفحات التاريخ التي أفردت مساحات وصفحات ووثقت قصص ” جرش ” وموقعها وسبب تسميتها وأعمال ساكنيها .ويتصف بقايا موقع ” جُرَش ” الحالي أمام ” فريق واس ” الذي وقف وسط شواهده بأنه مستطيل الشكل بمساحة تبلغ ( ٣٠٦ أمتار في ٤٣٠ متراً ) ، وتمتد على طول الموقع من الجنوب إلى الشمال تلال أثرية ، ترتكز كثافتها في المنتصف ، وفي الجهة الشرقية توجد بالموقع جدران ذات صخور مشذبة وكبيرة الحجم ، يتراوح طولها ما بين ٨٠ سم إلى مترين وعرضها حوالي ٦٠ سم ، وتشابه ضخامة الجدران بالموقع وأسلوب بناؤها لما هو موجود في موقع الأخدود بمنطقة نجران، وهذا ما جعل ” واس” تستعيد في تقريرها التاريخ وقصص المكان والإنسان الممتدة في جذور الزمن منذ العصور الأولى إلى القرن السابع الهجري الذي بدأت فيه ملامح الاختفاء تلوح في الأفق معلنة نهاية الحضارات، ليبدأ دور البحث والتوثيق والتدوين والتحليل عبر صفحات التاريخ وما تحتفظ به أقلام المهتمين والباحثين والمؤرخين والرحّالة.وبدأت منذ عقد مضى ويزيد، مسيرة أخرى، حيث أخذت هيئة السياحة والتراث الوطني على عاتقها مسيرة التنقيب والكشف عن بقايا المكان وتفاصيله المدفونة والحفاظ عليه والعمل على تقديمه بشكل يوزاي تلك المكانة التاريخية والحضارات المتتابعة التي قضت قروناً في هذا الموقع.وجمع المؤرخ ” محمد بن أحمد معبرّ ” في كتابه (قصة البحث عن جرش) ثلاثة أقوال في سبب تسمية ” جُرَش ” بهذا الإسم، إذ اتفق الكثير من المؤرخين على سبب التسمية بهذا الإسم إلى أنه جاء بناء على ما أورده ياقوت الحموي باتفاقه مع البكري نقلاً عن أبي المنذر هشام بقوله : ” جُرَش هو لقب منبّه بن أسلم بن زيد بن الغوث بن حمير” ورجّح المؤلف القول الثالث بحسب أقوال علماء النسب كإبن حزم الأندلسي في جمهرة أنساب العرب :” وذو يزن وجرش ابنا أسلم بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جُشم بن عبدشمس بن وائل بن الغوث بن قطن إبن عريب بن الغوث بن أيمن الهميسع بن حمير”، فيما ذكر الهمداني في كتابه “صفة جزيرة العرب” صفحة 256 بقوله : “جُرش هي كَورَه نجد العليا وهي من ديار عنز ويسكنها ويترأس فيها العواسج من أشراف حمير ” واصفاً جُرش بأنها في قاع ولها أشراف غريبة بعيدة تنحدر مياهها في مسيل يمر في شرقيّها بينها وبين حمومه ناصية تسمى الأكمة السوداء ، ثم يلتقي هذا السيل أودية ديار عنز حتى تصب في بيشة بعطان، فجُرش رأس وادي بيشة”، ويؤيد قول الهمداني ما ذكره صاحب كتاب “الخراج وصنعة الكتابة ” عن الطريق من مكة المكرمة إلى اليمن حيث ذكر جُرش، واستمر “العواسج” في جرش كما ذكر الهمداني في القرن الرابع الهجري، ثم نزحو في نهاية القرن الخامس وبداية القرن السادس الهجري واستقرو في مكانهم الحالي وادي بن هشبل شمال جُرش بـ 40 كيلومتر والبعض منهم سكن بيشة حتى عصرنا الحاضر.وقال الأسطخري المتوفي من النصف الأول من القرن الرابع الهجري في كتابه “المسالك والممالك “: “ونجران وجُرش مدينتان متقاربتان في الكبر بهما نخيل ، ويشتملان على أحياء من اليمن كثيرة”، كما تناولت صفحات التاريخ عن دخول جرش الإسلام وكان ذلك في عهد النبي صل الله عليه وسلم بعدما قدم صرد بن عبد الله الأزدي في السنة العاشرة من الهجرة على الرسول في وفد من الأزد فأسلم وحسن إسلامه، وأمّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على من أسلم من قومه، وأمره أن يجاهد بمن أسلم من يليه من أهل الشرك ، فذهب فحاصر جرش ، كما ذهب وفد منهم حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلموا ، وحمى لهم حول قريتهم على أعلام معلومة .وأشار أستاذ التاريخ بجامعة الملك خالد الدكتور غيثان بن علي بن جريس في حديثه لـ ” واس ” ما وثقه عبر كتابه ” القول المكتوب في تاريخ الجنوب ” بقوله : ” إذا طالعنا أمهات المصادر التاريخية والتراثية فإن إسم أحد رفيدة وما حولها عرف بـ ” مخلاف جُرَش ” وهي ذات تاريخ حضاري قديم ، ومازالت آثار مدينة جرش ماثلة للعيان في مدينة أحد رفيدة حتى اليوم ” وأضاف : ” تشير كتب النسب وغيرها من مصادر التاريخ القديمة إلى أن بلاد رفيدة كانت مستوطنة ببعض القبائل الحميرية والخثعمية وغيرها منذ عصر ما قبل الإسلام، ومنذ القرن الثاني إلى السادس الهجري تبرز قبيلة عنز بن وائل العدنانية لتكون صاحبة الهيمنة على جزء كبير من مخلاف جرش، وفي القرن السابع الهجري ( الثالث عشر الميلادي ) لا تذكر المصادر دوراً لهذه القبيلة في جرش، بل إن مصطلح جرش نفسه اختفى في مصادر التاريخ الرئيسية منذ القرن الثامن الهجري ( الرابع عشر الميلادي )، وفي ذلك ما ذكره أبن كثير في كتاب ” البداية والنهاية ” بأن جرش هلكت بمرض الطاعون في سنة 597 هجري وكانت قراهم 20 قرية هلك منهم 18 قرية.وعن الجوائب الحضارية في جرش ومخلافها، أورد أستاذ التاريخ بجامعة الملك خالد الدكتور غيثان بن جريس في مؤلفاته التي تناولت ” مخلاف جُرَش ” بأنه من الطبيعي أن تحظى جرش ومخلافها بنشاطات مهنية متعددة، كالرعي والزراعة، والصناعات، والحرف اليدوية، والتجارية، والازدهار العمراني ، ويعود ذلك إلى خصوبة تربتها وحسن موقعها، وقال إن أقرب دليل على بروز هذه المهن في حياتهم ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه الموجه إليهم ، والذي حمى لهم حماهم الذي أسلموا عليه ، والحمى لا يوجد إلا إذا وجدت المواشي والبهائم التي ترعى فيه. وأضاف تأكيد بعض الجغرافيين على كثرة الأدم ودباغة الجلود في مخلاف جرش، وهذا دليل على كثرة المواشي والبهائم في ربوعها.وأورد الدكتور بن جريس أن من المنتوجات الزراعية التي كان يشتهر بها وطن جرش ، الحبوب كالقمح والشعير والذرة ، وقد يفيض الإنتاج عن الحاجة فيصدّر إلى حواضر الحجاز واليمن، أما منتوجات المخلاف من الثمار ، فتتمثل في الزبيب والتمر، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى أهل جرش عن خلط الزبيب بالتمر ، ويعد العنب الجرشي من أجود الأصناف ، وقد أثنى على جودته المؤلفون الأوائل ، أمثال الأصمعي في كتابه “النخل والكرم ” في أثناء حديثة عن أصناف العنب فقال : (فأما الجرشي فأبيض صغار الحب أول العنب دراكا ) ويشير صاحب كتاب لسان العرب ، إلى العنب الجرشي فيقول ( ضرب من العنب أبيض إلى الخضرة ، رقيق صغير الحبة)، مؤكداَ أن المهن والحرف الصناعية بمخلاف جرش متعددة، قائلاً : ” ما حفظته لنا المصادر المبكرة لا يتجاوز عدداً محدوداً من الصناعات ، والثابت أيضاً أن دباغة الجلود وخرازتها في جرش ، ازدهرت ازدهاراً عظيماً ، فأشار أبو الفداء وابن المجاور إلى ذلك وهذه الجودة التي تمتعت بها هذه الصناعة ، ساعدت على شهرتها التي تجاوزت حدود شبه الجزيرة العربية، حتى صار هذا النوع الجيد، والمعروف باسم (أدم جرش) مشتهراً في الأسواق الخارجية مثل أسواق العراق وفارس وبلاد الشام وغيرها ، موضحاً: “أن الصناعات الحربية التي اشتهر بها المخلاف صناعة الدبابات والمجانيق، والعرادات والدبابات التي كانوا يصنعونها وهي آلة من مادة الخشب مغطاة بجلود البقر يدخل فيها الرجال ، ويقربونها من الحصن المحاصر لينقبوه ، وهي تقيهم مما يرمى عليهم من حجارة، أما المجانيق والعرادات فهي من آلات الحصار ، التي ترمى بواسطتها الحجارة الثقيلة على الأسوار ” .وتناول الدكتور بن جريس في حديثه : ” يذكر أن الأغنياء من أهل مكة المكرمة والطائف وغيرهم من حواضر شبه الجزيرة العربية كانوا يذهبون إلى بلاد جرش ليتعلموا بعض الصناعات الحربية ، قصد حماية أنفسهم وأموالهم ، وممن ذهب إلى هناك أيام الرسول صلى الله عليه وسلم عروة بن مسعود الثقفي ، وغيلان بن سلمة اللذان سارا إلى جرش وأقاما فيها يتعلمان صناعة العرادات والدبابات أثناء محاصرة الرسول صلى الله عليه وسلم لمدينة الطائف، وهذه الرواية وغيرها من الروايات تؤكد ما كانت تحتله جرش من مكانة مهنية ، خاصة في المهن الحربية “.وعن مسيرة التنقيب والبحث التي أجرتها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بمتابعة وتوجيهات صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان رئيس هيئة السياحة والتراث الوطني خلال ال 11 موسماً الماضية، حيث كشفت بيانات الهيئة أن الأعمال الميدانية لفرق التنقيب سجلت كثير من الظواهر الأثرية، منها حصن جُرش، والكشف عن أساسات لمسجدين؛ مسجد كبير مبني فوق مسجد أسفل منه، ويعودان لفترة إسلامية مبكرة أساساتهما من طوب الآجر، بُنيا فوق أساسات الحصن الذي يعود لفترة ما قبل الإسلام، كما اكتشفت القنوات المائية المحاذية للمسجد الإسلامي القديم، وقد تم العثور في الطبقات السفلى من الموقع خلال تلك المواسم على أجزاء من أوانٍ فخارية على أشكال مختلفة تمثل جرارًا وطاسات وأكوابًا متوسطة الحجم صنعت جميعها من عجينة لونها أحمر إلى أحمر فاتح أو بني، مسامية، صلبة ويظهر على بعضها طلاء بالمغرة الحمراء، وجاءت الزخارف إما مصبعة أو حزوز أو منقطة أو خطوط متموجة، كما توجد زخارف هندسية تمثل مثلثات أو دوائر، وبعضها على هيئة شبكية، أما الصناعة، فقد تمت بواسطة عجلة الفخراني (الدولاب)، وتشابه ما عثر عليه في موقع الأخدود بنجران من حيث لون العجينة والزخرفة، وتم العثور في الموقع أيضًا على فخار الفترة الإسلامية في الأجزاء الشمالية الشرقية والوسطى من الموقع حيث وجدت عدد من القدور والأواني الفخارية .الجدير بالذكر، أن تقرير المسح الأثري الذي تم على المواقع الأثرية في المنطقة الجنوبية الغربية في المملكة الموثق عام 1400 هـ واستخدم من خلاله (كربون -14) في تحليل مكونات موجودات المكان، يؤيد الرأي القائل بأن الموقع شهد فترة استيطانية أولى خلال الحقبة الزمنية القديمة ، ثم فترة ثانية في بداية العصر الإسلامي، حسب ما وثقه المؤرخ محمد بن معبرّ ” في كتابه ( قصة البحث عن جرش )، حيث أظهر تحليل طبقات التربة أن الطبقة السفلية بالموقع تعود إلى القرن الأول بعد الميلاد، وأن الطبقة الخامسة ترجع لعام 280 ميلادية ، بينما تعود الطبقات العلوية إلى فترات لاحقة، وترجع الطبقة الرابعة لعام 510 ميلادية ، والثالثة للعصر الإسلامي ، والثانية والأولى لعام 1030 ميلادية.وعلى ضوء تلك المكانة التاريخية لجُرَش وما تم العثور عليه من مكتشفات ومقتنيات أثرية قامت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بإنشاء مشروع “مركز الزوار” وتسوير موقع جُرش الأثري، إلى جانب تطوير الواجهة الشمالية لتكون مدخلاً مباشراً للموقع بالشراكة مع أمانة المنطقة، ممثلةً في بلدية محافظة أحد رفيدة، ويجري العمل على افتتاح مركز الزوار في الوقت القريب، على مساحة تتجاوز ٦٠٠ متر مربع ، فيما يحتوي المركز على قاعة رئيسية، سيتم فيها عرض المكتشفات الأثرية والصور والخرائط والرسومات والأفلام المرئية والمعلومات الدقيقة عن حضارة جُرَش وتاريخها، إضافة إلى قاعة لكبار الزوار وأجزاء مخصصة للموظفين ومرافق عامة لخدمة الزوار .

مشاركة :