لم يكن الاتجاه المحافظ المستنير - أو إن شئت قل المدرسة الليبرالية المصرية – المسئول الأوحد عن تربية الرأى العام وتثقيفه، بل شاركه فى ذلك الاتجاهاين المحافظ الرجعي، والعلمانى التغريبي.وإذا كان توفيق الحكيم يمثل مدرسة لطفى السيد الليبرالية فى مناقشة القضية التى نحن بصددها – ألا وهى حوار الشباب والشياب - وذلك فى إطار المساجلات التى دارت بين المثقفين حول قضية القديم والجديد والثوابت والمتغيرات، فإن سلامة موسى (١٨٨٧ – ١٩٥٨) هو خير من يمثل الاتجاه العلمانى التغريبى فى الثقافة المصرية والعربية فى النصف الأول من القرن العشرين. ولعل أهميته فى هذا السياق ترد إلى كثرة مؤلفاته حول قضايا الشباب، فقد ناقشها فى عشرات المقالات التى نشرت فى مجلات «الهلال» و«المستقبل» و«الجديد» والشئون الاجتماعية و«المجلة الجديدة» فى الفترة الممتدة من سنة ١٩١٥ إلى سنة ١٩٥٦ ثم جمعها فى أربعة كتب رئيسية، وهى «أحاديث إلى الشباب» و«طريق المجد للشباب» و«مشاعل الطريق للشباب» و«الشخصية الناجعة».وعلى الرغم من الأثر المحدود لهذه الكتابات فى الثقافة المصرية خلال النصف الأول من القرن العشرين إلا أننا لا يمكننا تجاهل ذلك الأثر، لا سيما بعد ذيوعه بين المثقفين والعوام خلال النصف الثانى من القرن العشرين – أى بعد وفاته – بالإضافة إلى انتحال أفكاره فى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين على يد الكثير من الأدعياء.وإذا كان الاتجاه الليبرالى المصرى الذى تزعمه أحمد لطفى السيد قد اجتهد فى تطبيق رسالة الأستاذ الإمام محمد عبده فى محاربة التقليد بغية إعمال العقل فى نقد الموروث وفتح باب الاجتهاد ثانية بغية التجديد، فإن سلامة موسى سار - على غير قصد منه - من التقليد إلى التبديد، ويبدو ذلك جليًا فى آرائه الداعية للفناء فى الغرب وثقافته بكل ما فيها تلك الثقافة المناقضة للمشخصات العربية الإسلامية المستندة إلى الثوابت الثقافية والعقدية التى تشكلت منها البنية الثقافية للمجتمع المصري. فقد أراد تقليد الغرب بلا حدود وأسرف فى دعوته إلى الحرية - لا سيما بين الشباب – بلا قيود تضبطها وتهذبها، مضحيًا بذلك بالتراث ذلك الذى وصفه بأنه ماضٍ مظلم شاغل بالغيبيات المعطلة للعقول، والولاء والانتماء وذلك باندفاعه صوب الثقافة الأوروبية بوصفها النموذج الأمثل للتحديث والرقى والتقدم. فسلامة موسى من أوائل المفكرين المصريين الذين جحدوا الشرق بكل ما فيه من عادات وتقاليد وأديان ولغة وأدب وفن، وردد آراء غلاة المستشرقين الطاعنة فى أصالة الحضارة العربية الإسلامية (أنا كافر بالشرق ومؤمن كل الإيمان بمعطيات الثقافة الغربية) وراح يروج كذلك للأفكار الماسونية والدين الطبيعى والكوكبة أو العولمة والفصل التام بين الدين والمجتمع بين الشباب، ورفع شعار «الوحدة الإنسانية» عوضًا عن الانتماءات الوطنية والقومية، وقد بلور أفكاره فى صورة نصائح للشباب ليتخلصوا - ذكورًا وإناثًا - من كل السلطات التى تحد من حرية إرادتهم بداية من سلطة الأبوين ونهاية من سلطة المشخصات السائدة فى العقل الجمعي. ولا نريد من عرضنا لتلك الآراء الكشف عن رؤية مغايرة أو تصورات جانحة، بل نرمى إلى إثبات أربعة أمور: أولها تهافت الحلول التى قدمها سلامة موسى تجاه قضايا الشباب، وثانيها تبيان أن معظم ما قدمه سلامة موسى من حلول لا يتعدى أن يكون تقليدًا غير مدروس ومنقول من الثقافة الغربية المغايرة تمامًا لطبائع الفكر الشرقى ظنًا منه بأن تقليد فكر المبدع المنتصر سوف يقود الأمة المصرية إلى آفاق المجد والتقدم. وللأسف أثبتت التجربة العملية أنه كان يبدد ولم يفلح فى التحديث أو التجديد، وإن كان ما أثاره من آراء قد أثرى المساجلات الدائرة بين المحافظين والمجددين حول قضايا (التراث والتجديد والحرية والوعى والإصلاح) وثالثها فضح أولئك الذين انتحلوا آراءه الشاذة وراحوا يتشدقون بها فى أيامنا هذه باسم الحرية تارة، والتقدم تارة أخرى، ورابعها توضيح البون الشاسع بين ثقافة العقلاء المبدعين المتمثلة فى قادة الرأى من أعلام الطبقة الوسطى المصرية فى النصف الأول من القرن العشرين وأندادهم فى النصف الثانى من القرن العشرين وحتى الآن. فقد امتازت مساجلاتهم حول قضايا الثقافة بالرقى والموضوعية والتسامح فى آفاق عريضة من الحرية، أما «متعالمى» اليوم من أشباه المثقفين فإن لغتهم فى التصاول وصلت من البزاء إلى القدر الذى لا يمكن وصفه ناهيك عن مجافاة آرائهم لمنطق الحوار والأسلوب العلمى ناهيك عن التعصب المقيت والإطاحة بالخصوم، والعنف والإرهاب. فعلى الرغم من اجتراء سلامة موسى على كل الثوابت بما فى ذلك ذات الله والدين لم يناد أحد بمصادرة كتبه أو قتله أو سجنه اللهم فى الخلافات السياسية الحزبية فقد اتسمت بعض مناظرته بالحدة والتطاول. وسوف أحاول خلال السطور التالية توضيح أهم تلك الآراء التى أدلى بها لحل مشاكل الشباب، فيقرر سلامة موسى أن العلاقة بين الشباب والشياب يجب أن تقوم على مبدأ رئيس، ألا وهو الحرية فى كل شيء لا سيما فى سن المراهقة - الذى جعله فى سن ١٥ إلى سن ٢٥ - بداية من حرية الاطلاع والتثقيف الذاتى ومرورًا بحرية الاعتقاد وحرية الإرادة فى الاختيار وحرية الانتماء، وانتهاء بإباحة العلاقات الجنسية والاختلاط فى دور التعليم وشرب الخمور والتدخين.وذهب إلى أن أكذوبة الانضباط الخلقى النابع من الفكر الموروث لا ينبغى على الآباء فرضه على الأبناء حتى لا يصابوا بالكبت الذى يدفعهم إلى الانتحار أو اليأس والتقوقع والفشل، فالشباب الذى يفعل ذلك يشعر بأنه مقهور يخشى سلطة الأبوين، أو يرهب مخافة التقليد ونقد المجتمع، «ارحموا أبناءكم أيها الآباء، لا تحملوهم على الجنون والإجرام، يسروا لهم الاختلاط بالجنس الآخر، رفهوا عنهم بالتنزه وارتياد الملاهى والمراقص، واكفلوا لهم نزهة سنوية لا تقل عن شهر على الشواطئ، ولا تلحوا عليهم بالإمعان فى المذاكرة، فكروا فى مستقبل أبنائكم جديًا، ولكن مع الرحمة والحنان». ويتطرق سلامة موسى إلى الثقافة التى يجب على الشاب أن يتزود بها، مبينا أن الشاب الشرقى أو العربى ينشأ على ثقافة الغيبيات، بينما الشاب الأوروبى ينشأ على ثقافة الفلسفة الوضعية والعلم، فينمو الأول بدينًا سمينًا معتل الصحة، بينما يشب الثانى فتى رشيقًا كاملًا وموفور الصحة والعافية، وانتهى إلى أنه يجب على الشباب العربى جحد ثقافة البدانة والسمنة وطلب ثقافة الحركة والرشاقة التى تمكنهم من الإبداع والتقدم، فثقافة الحفظ والتلقين ثقافة خاملة يجب الإقلاع عنها والإقبال فى الوقت نفسه على ثقافة النقد والعلم التى انتقل بها الغرب من طور التخلف إلى طور النهضة والاستنارة «أيها الشاب: تعلم علمًا من العلوم، واستقل فى تفكيرك، وزد بلادك قوة وثراءً وخيرًا». كما أكد سلامة موسى أن المثقف الحق هو الذى يتمرد على واقعه ويثور على كل ما فيه من ركود وتقليد ورجعية، لذا نراه يربط بين الجنون والعبقرية. يقرر سلامة موسى أن العلاقة بين الشباب والشياب يجب أن تقوم على مبدأ رئيسى، ألا وهو الحرية فى كل شيء لاسيما فى سن المراهقة..وللحديث بقية عن آراء سلامة موسى الاجترائية.
مشاركة :