ترتبط فكرة الادخار في أذهان جيل الشباب بالحرمان من الكثير من متطلبات الحياة وتوديع الرفاهية إلى أجل غير مسمى، وهي مسألة صعبة في عصر أصبحت فيه كماليات الماضي ضرورات لا يمكن الاستغناء عنها ويتم الترويج لها في كل مكان. تونس – يفرض النمط الاستهلاكي الذي نشأ عليه جيل اليوم نفقات مكلفة لم تعد كماليات كما كانت عليه قبل سنوات قليلة ماضية، يضاف إليه الشغف الشبابي بكل ما هو عصري وجديد، يتم الترويج إليه أينما التفتوا، فأمام هذه المغريات تصبح مسألة الادخار والتوفير غاية في الصعوبة. الفكرة القديمة المتجددة في كل عصر أن شباب أي جيل جديد أقل حكمة وتفهما لشؤون الحياة وتحمل المسؤولية وأهمية إدارة المال، ويُدانون بشدة عندما يتعلق الأمر بالميل إلى تغيير وظائفهم بشكل متكرر، وربما يؤجلون فكرة الزواج كثيرا، وينشغلون أكثر بإنفاق نقودهم لشراء بعض المأكولات والمشروبات، بدلا من التوفير لشراء منزل أو الادخار لأجل طويل. لكن هذه الفكرة فيها بعض التجني، وهي نسبية بين مجتمع وآخر، ولا تتاح للشباب في بعض الأحيان خيارات أخرى سوى التقشف والالتزام بقلة قليلة من المتاح، في ظل ظروف قاسية وأجور متدنية تكاد تلبي متطلبات الحياة البسيطة. تأسيس القواعد يبدو لافتا في مجتمعات أخرى وجود فئة اتخذت قرارها بتأسيس قواعد ثابتة على الأرض للانطلاق بمشاريعها الخاصة، والالتزام بأسلوب حياة لا مكان فيه للرفاهية، بينما الإنفاق يبقى ضمن الحدود الدنيا حتى الوصول إلى الهدف. ويقول علي الشريف (35 عاما) من تونس ويعمل مهندس اتصالات إن الادخار هو ثقافة، وللأسف معظم الناس تتذرع بأن الراتب لا يكفي وهو ليس أمرا غريبا، لكن يجب على كل شاب أن يدخر جزءا من راتبه مهما كان صغيرا ولا يعتمد على القروض من البنوك، ويجب أن نرتب أولوياتنا ونقوم ببرمجة حياتنا ولا نقارن أنفسنا بأشخاص آخرين يستعرضون حياتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بكثرة السفر وشراء السيارات وارتياد المطاعم الفاخرة والملابس الباهظة”. السياح السعوديون يحتلون المركز الأول في الإنفاق على السفر وغالبيتهم من الشباب الذين يبحثون عن الجودة وأضاف الشريف في تصريحات لـ”العرب” “اعتمدت على الادخار من راتبي حتى أنني كنت أذهب إلى العمل على الدراجة العادية، واستطعت شراء سيارة وتوفير متطلبات الزواج دون الاستعانة بالقروض، رغم أن أشخاصا آخرين يعملون في مجالي ويتقاضون ما أتقاضاه مازالوا في بداية مشوار الادخار”. وهو ما يوافق عليه أحمد المقراني (32 عاما) موظف في الإدارة العامة التونسية، ويقول “أعمل في وظيفة عامة براتب متوسط، وبقيت مدة ثماني سنوات أقوم بتوفير غالبية ما أتقاضاه، تزوجت وأنشأت بيتا وعائلة بفضل التوفير، لكن طول فترة ما قبل الزواج حرمت نفسي من أشياء كثيرة حتى أصل لهدفي”. وفي المقابل تشير العديد من الدراسات إلى أن الشباب لا يدخرون لمستقبلهم ويعيش بعضهم على مبدأ “اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب”، فأين ينفق هؤلاء الشباب أموالهم؟ يختلف حجم الإنفاق لدى الشباب بين دولة وأخرى، وتأتي دول الخليج على رأس القائمة. فمثلا السعودية تتصدر الدول العربية من ناحية الإنفاق على السياحة الخارجية. ويسافر أكثر من 5 ملايين سعودي سنويّا، كما أن 80 بالمئة من الشباب الإماراتي ينفقون أموالهم على السفر، أما الأردن فإن نسبة الإنفاق على السياحة فيه قد زادت بمعدل 10 بالمئة عن الأعوام السابقة. ومعدل ما ينفقه الشباب العربي على السياحة داخلية كانت أو خارجية يرتفع خلال الصيف وخلال الإجازات. وكشفت شركة “فيزا” العالمية في تقرير صدر هذا العام، أن السياح السعوديين يحتلون المركز الأول في الإنفاق على السفر وبطبيعة الحال غالبيتهم من الشباب، فيما جاء الكويتيون في المركز الخامس عالميا على التوالي في الإنفاق على السفر، وذلك ضمن دراسة شاملة للتوجهات العالمية لأفضل السياح إنفاقا. وأشارت إحصاءات أصدرها البنك الدولي عام 2016، إلى احتلال السعوديين المرتبة الأولى خليجيا في الإنفاق السياحي في الخارج، وحلت السعودية في المرتبة الثالثة من حيث العوائد السياحية الداخلية، وقد صنَّف الإحصاء السعودية ضمن قائمة الدول العشرين عالميا في إنفاق مواطنيها على السياحة في الخارج. كما كشف تقرير جديد، صادر عن منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة ولجنة السفر الأوروبية، أن السياحة الخارجية الصادرة عن مجلس التعاون الخليجي قد نمت بقوة في السنوات الأخيرة، حيث تجاوزت نفقات السياحة الدولية 60 مليار دولار أميركي في عام 2017. ويدرس تقرير سوق السفر الخارجي لمجلس التعاون الخليجي، وهو تقرير جديد أعدته منظمة السياحة العالمية وشركة “فاليو ريتيال”، السوق الخارجية المتنامية بسرعة لدول مجلس التعاون الخليجي، مع تركيز إضافي على أوروبا كوجهة سياحية. ووجدت الدراسة أن نصيب الفرد من الإنفاق على السياحة الدولية من دول مجلس التعاون الخليجي كان 6.5 مرات أعلى من المتوسط العالمي في عام 2017، حيث قدرت النفقات بأكثر من 60 مليار دولار في عام 2017، مقابل 40 مليار دولار في عام 2010. هوس لاقتناء السيارات الفارهة حتى لو تعدى الأمر الإمكانيات الماديةهوس لاقتناء السيارات الفارهة حتى لو تعدى الأمر الإمكانيات المادية وأشار التقرير إلى أن المسافرين من دول مجلس التعاون الخليجي هم في الغالب من الشباب، مع دخل كبير يمكن الإنفاق منه، ويبحثون عن أماكن إقامة ذات جودة عالية وأطعمة وخدمات تجزئة. تعتبر السيارات أحد أهم الاحتياجات التي ينفق عليها الشباب اليوم، خاصة في الدول الخليجية، لكون طبيعة هذه الدول تجعل السيارة ضرورة ملحة، ولكن الخلل هو أن الإنفاق يتجاوز إمكانيات البعض الذين يضطرون للاقتراض لتلبية شغفهم بالسيارات. وتقول التقارير إن دول الخليج العربي من أهم الأسواق المستهدفة لشركات السيارات عموما والرياضية الباهظة الثمن؛ لأنها وجدت من يشتريها بشكل دائم. وحتى لو تم شراء سيارة غير فارهة وإنما أحدث الموديلات، فهناك خسارة إضافية يتكبدها البعض بسبب تبديل السيارة لمجاراة كل ما يطرح كل عام، وفي النهاية تكلف مبالغ كبيرة. ويسيطر على البعض من الشباب هوس اقتناء السيارات الفارهة حتى لو تعدى الأمر إمكانياتهم المادية، ويقول الشاب أحمد الناصر من الكويت على صفحته في فيسبوك، إن البنوك أصبحت ملاذا للكثير من الشباب أصحاب الإمكانيات المتواضعة إلا أن حب اقتناء السيارات الفارهة يسيطر عليهم، ما جعلهم يثقلون على أنفسهم بالديون التي تزداد تراكما ليجدوا أنفسهم في النهاية أمام ورطة كبيرة. وأشار الناصر إلى أن عددا من أصدقائه سارعوا إلى الاقتراض من البنك لشراء سيارة أحلامهم فور حصولهم على الوظيفة، في حين أنه يفترض بهم التفكير بالأمور الأساسية في الحياة والتصرف بعقلانية. نمط استهلاكي مكلف إذا كانت السياحة والسيارات تستهلكان النصيب الأكبر من إيرادات الشباب، فإن المواد الاستهلاكية الأخرى تحتل نصيبا لا يستهان به من أموالهم، حيث يتجاوز الإنفاق على العطور في دول الخليج وحدها 642 مليون دولار سنويّا، ولا يختلف هذا الأمر عند النساء أو الرجال. وتقول تقارير صحافية إن الشباب السعودي مثلا ينفق ضعف ما تنفقه السعوديات على الأحذية والملابس. والأمر نفسه ينطبق على الشباب الإماراتي، المغربي، اللبناني، العراقي، التونسي وغيرهم. حيث أصبح التباهي ثقافة وسمة العصر الحالي، مع الاتجاه إلى تقييم الشخص وفق مظهره إضافة إلى التنافس والغيرة، ما يجعل حجم الإنفاق على الموضة والأكسسوارات يصل إلى معدلات كبيرة. وحتى في العراق الذي تعتبر فيه مستويات الدخل الفردي متدنية، ذكر إحصاء محلي أُجري في عام 2015 أنه مع ارتفاع معدلات الدخل إلى 400 دولار بعد أن كانت 125 سابقا ارتفع معدل الإنفاق عند الشباب إلى 220 دولارا على الملابس والأكسسوارات والعطور. كما تعج أماكن السهر بالشباب بغض النظر عن الفصول وعن أيام الأسبوع، ويحرص هؤلاء على الترفيه عن أنفسهم في أي وقت، وهذا النمط الحياتي يكلف مبالغ لا يستهان بها من مجمل ما يجنيه الشباب. فئة اتخذت قرارها بتأسيس قواعد ثابتة على الأرض للانطلاق بمشاريعها الخاصة والإنفاق ضمن الحدود الدنيا ولا يمكن استثناء حجم الإنفاق على الأجهزة الإلكترونية، وخصوصا الهواتف، ففي الدول العربية ودول الخليج، بشكل خاص، وصل حجم الإنفاق على الأجهزة المحمولة سنويا إلى 40 مليار دولار، منها 27 مليارا للهواتف الذكية والبقية للكمبيوترات اللوحية أو أجهزة الألعاب المحمولة. وهو اتجاه عالمي لا يتعلق بالمنطقة العربية فقط، حيث أكدت دراسة عالمية حديثة تزايد الإنفاق على خدمات الاتصالات وتقنية المعلومات في جميع أرجاء العالم خلال العام الحالي والأعوام القليلة المقبلة. وتوقعت دراسة لمؤسسة “غارتنر” البحثية العالمية، أن يرتفع الإنفاق على خدمات قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات في جميع أسواق العالم خلال العام الحالي إلى أكثر من 3.74 تريليون دولار. ويعد الشرق الأوسط من أكبر المناطق في العالم التي تضم السكان الشباب من جيل الألفية التي تشكل فئة أكثر ثراء من المتوسط ويتمتعون برغبة وقدرة شرائية أكبر، ووفقا لتقرير شركة ديلويت حول أسواق السلع الفاخرة، تتيح تلبية احتياجات الجيل العربي الجديد من متسوقي السلع الفاخرة فرصة لخلق الولاء للعلامة التجارية، وزيادة الإنفاق على السلع الفاخرة، كما تعزز من نسبة النمو في الأسواق. وأكد التقرير أن دبي تعد من بين أفضل وجهات التسوق المرغوبة في العالم التي يقصدها السواح المتميزون من جميع أنحاء العالم لتسوق السلع الفاخرة ومركزا مهما للإنفاق في المنطقة. القروض تفاقم المشكلة أطلقت شركة سدكو القابضة السعودية برنامجا للوعي بالمال يحمل عنوان “ريالي”، عام 2012، ويهدف إلى توعية الأطفال والشباب السعوديين بالتخطيط المالي وإعداد الميزانيات، وغرس ثقافة الادخار والاستثمار وحسن التعامل مع القروض المالية، وتزويدهم بالأدوات التي تعينهم على اتخاذ قرارات مالية سليمة تمكنهم من عيش حياة كريمة. والجدير ذكره أن البرنامج قد فاز بجائزة مكة للتميز عام 2013 في فرع التميز الاجتماعي. وأظهر آخر استطلاع قام به البرنامج في العام الحالي، بالتعاون مع موقع “سوق المال دوت كوم” حول القروض الاستهلاكية للأفراد في المملكة، أن أكثر من 70 بالمئة من المشاركين حصلوا على برامج تمويلية منذ بداية عام 2016. وهذه النسبة تشير إلى أن غالبية المشاركين يتخذون من الاقتراض وسيلة رئيسية لتلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم المالية. وتتعدد الأغراض والحالات التي يلجأ فيها الفرد إلى طلب تمويل شخصي مثل سداد الديون أو تغطية تكاليف الإجازات والسفر وتمويل احتياجات التعليم أو تغطية تكاليف حفلات الزفاف أو تلبية احتياجات طبية ومالية مؤقتة أو انتهاز فرص استثمارية تحتاج لسيولة وغيرها. وأوضحت البيانات أيضا أن أكثر من 40 بالمئة من المشاركين الذين حصلوا على تمويل شخصي، أنفقوا مبلغ التمويل في سداد ديون سابقة، يليها حوالي 37 بالمئة أنفقوها في تغطية تكاليف المعيشة، مما يدل على سوء إدارتهم المالية أو التمتع بمستوى معيشي أعلى من قدراتهم المالية والاستمرار في الاقتراض أملا في التخلص من الديون والحصول على أسلوب حياة أفضل، إلا أن الأمر ينتهي بزيادة تراكم الديون نتيجة للتكلفة المرافقة لكل تمويل. فسداد الدين بالدين قد يجعل الأفراد داخل دائرة الديون دون حل.
مشاركة :