أيام قليلة وتبدأ الدورة الخامسة والستون لمهرجان برلين السينمائي (5 - 15 شباط - فبراير) الذي يعد أحد أعرق مهرجانات العالم. والذي بدأ لأسباب سياسية - يوم 6 حزيران (يونيو) عام 1951 - في برلين المقسمة بين الشرق الشيوعي والغرب الرأسمالي. حينذاك كانت المدينة قد أصبحت تحت وصاية الحلفاء. تأسس مهرجان برلين بعد ست سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية في محاولة للإعلان عن أن المدينة لم تمت تحت أنقاض الحرب العالمية، لكن حرباً أخرى كانت قائمة، هي الحرب الباردة بين المعسكرين. لذلك، وعلى رغم وجوده في قلب المنطقة الشرقية لم تشترك البلاد الشيوعية فيه بأي من أفلامها إلا عام 1965، وذلك تحت ضغط رواد حركة السينما الألمانية الجديدة في الستينات. وبعد أن تحول المهرجان من هيئة حكومية إلى هيئة شعبية تحصل على دعم حكومي من الأموال العامة. كان المهرجان أحدى ساحات الحرب الباردة في مجال السينما، وكانت الأفلام في الدورات الأولى تُنقل بالطائرات الحربية الأميركية، وكانت جوائزه يمنحها الجمهور قبل أن يعتمد المهرجان على لجان التحكيم منذ عام 1955. وعلى مدار تاريخه تبدل مقر إقامته ثلاث مرات، مثلما تغير موعد انعقاده من الصيف في حزيران إلى الشتاء في شباط منذ عام 1978. أزمات متنوعة بدأ مهرجان برلين منذ عام 1964 يرفع شعار التقارب بين الدول والمعسكرين، لكن الشعارات لا تُصدق دائماً، فعلى رغم أنه في عام 1969 فاز الفيلم اليوغسلافي «أعمال مبكرة»، إخراج زيامير زيانيك بالدب الذهبي الأول لفيلم من المعسكر الشرقي، فإن وجود أفلام من دول المعسكرين زاد ضراوة الحرب الباردة مثلما حدث بعد عرض فيلم «OK» عام 1970، إخراج الألماني مايكل فرهوفن، و «صائد الغزلان» عام 1979، المعادي لفيتنام والذي احتجت بسببه كل دول المعسكر الاشتراكي المشاركة في تلك الدورة، وانسحبت جميعها وسحبت معها أفلامها. والغريب في الأمر أنه في العام التالي لمشكلة «صائد الغزلان» اشتركت جنوب أفريقيا بفيلم «زهور الماري غولد» في آب (أغسطس) إخراج روس ديفنيش، وذلك على رغم المقاطعة الدولية المفروضة عليها بسبب جرائم التفرقة العنصرية، وحصل الفيلم على جائزة تقدير خاصة من لجنة التحكيم. أما فيلم «OK» فتم سحبه من المسابقة الرسمية وبعد عرضه على الجمهور والنقاد في حفلة عامة بسبب احتجاج رئيس لجنة التحكيم الذي اعتبره فيلماً «يسيء إلى التفاهم بين الشعوب» لأنه يصور التصرفات المشينة التي يقدم عليها الجنود الأميركيون واغتصاب أربعة منهم فتاة فيتناميةً في الخامسة عشرة، فألغيت الجوائز وانفرط عقد المهرجان قبل الموعد المحدد لانتهائه بيومين، وألغيت العروض الباقية وسحب بعض المخرجين أفلامهم وذلك بعد أن تم الاعتراض والاحتجاج على تصرفات لجنة تحكيم المسابقة الرسمية مطالبين باستقالتها لأنها بدلاً من مناقشة الأفلام فنياً جعلت من نفسها رقيباً على مناقشة البرنامج وسياسته وسياسة المهرجان نفسها. وبذلك تكون اللجنة قد تجاوزت الاختصاصات الموكلة إليها والقواعد التي يجب أن تسير عليها، وتم حلها بعدما أثير حولها جو يتسم بالريبة والشك، كما قدم رئيس إدارة المهرجان ألفريد باور استقالته. يتميز برلين بأنه يتضمن أكثر من مهرجان، وهو على رغم تحيزه في بعض الفترات كان نافذة مضيئة لأفلام الدول الاشتراكية تطل من خلالها على سينما العالم، والتي حصد بعضها الدب الذهبي، مثلما لعب الدور نفسه مع دول شرق آسيا فقد ذهبت جائزته الذهبية أكثر من مرة إلى الصين الشعبية لأفلام مثل «حقول القمح الحمراء» – الفيلم الصيني الأول الذي يعرض في مهرجان دولي وينال جائزة الدب الذهبي - و «سيدة بحيرة الأحزان»، و «ليلة الزفاف». مرت على المهرجان دورات صعبة وبعضها كان مهدداً بالتأجيل مثلما حدث في عام 1990 في أعقاب سقوط سور برلين، وكان مهرجان «السور» وقتذاك قد سرق الأضواء من المهرجان، وفي العام التالي الذي شهد انعقاد الدورة الحادية والأربعين وقعت حرب الخليج الأولى، فكانت الدورة مهددة بعدم الانعقاد أيضاً بسبب اعتذار عدد من نجوم السينما بحجة عدم انتظام الطيران وحال الخوف التي سادت أوروبا حينذاك، لكن في النهاية أقيم المهرجان تحت إجراءات أمنية مشددة. مصر في برلين كانت مصر من أوائل الدول العربية التي اشتركت في مهرجان برلين السينمائي منذ دورته الثانية سنة 1952 بفيلم «زينب» إخراج محمد كريم. وفي عام 1953 اشتركت بـ «من غير وداع» لأحمد ضياء الدين، وفيلمي «ريا وسكينة» و «لك يوم يا ظالم» لصلاح أبو سيف، واستقبل النقاد الألمان الفيلم الأخير بترحاب، وقالت عنه الكاتبة ثيا فون هاربو الزوجة السابقة للمخرج فريتز لانج أنها وجدت فيه ما يُعيد إلى ذاكرتها «المدرسة التعبيرية الألمانية التي تعنى بتوزيع الإضاءة على نحو خاص ومميز». وكان أبو سيف – وكذلك كمال الشيخ - قد سجل عدداً ليس بقليل من المشاركات، منها مثلاً «الفتوة»، كما تقدم بفيلم «السقا مات» عام 1978 وقبلته لجنة اختيار الأفلام لكن أحد الأشخاص من وزارة الثقافة المصرية أرسل برقية إلى برلين يقول: «إن الفيلم لا يمثل مصر»، ونظراً إلى أن يوسف شاهين – المنتج – قد أدخل تونس شريكة في الإنتاج، لذلك رفع الفيلم من المسابقة الرسمية في برلين. في عام 1959، اشتركت مصر بفيلمين من إخراج هنري بركات هما «حسن ونعيمة»، و «دعاء الكروان» الذي عندما شاهده المخرج الأميركي مارتن سكورسيزي أثناء مشروع ترميم فيلم «المومياء» قال جملته الشهيرة عن السينما المصرية «يجب حماية هذه السينما العظيمة وإنقاذ أفلامها». أما في عام 1964، فشارك كمال الشيخ بفيلمه «الليلة الأخيرة» ومحمود ذو الفقار بفيلمه «الأيدي الناعمة»، إضافة إلى فيلم قصير عنوانه «الفيضان» مدته 14 دقيقة. وكانت الفنانة الراحلة فاتن حمامة عضو لجنة تحكيم في تلك الدورة، وهي الفنانة العربية الأول التي تشترك في التحكيم. واشتركت نبيهة لطفي بالمهرجان عام 1971 بفيلمها «صلاة» الذي يتناول رحلة السيد المسيح طفلاً إلى مصر مع السيدة العذراء طلباً للأمان. في حين شهدت الدورة الثالثة والعشرين – عام 1973 - اشتراك «المومياء» لشادي عبدالسلام، و «زهور برية» ليوسف فرنسيس في برنامج سينما الشباب – وهو البرنامج الذي بدأ عام 1966 – إضافة إلى فيلمين تسجيليين «المعجزة الثامنة أبو سمبل» إخراج جون فيني، وفيلم «حوار» إخراج كمال الشيخ. شاهين والدب الفضي منذ بداياته المبكرة كان المخرج الراحل يوسف شاهين شديد التطلّع إلى عرض أفلامه في المهرجانات الدولية، فمثلاً عام 1958 عرض «باب الحديد» في برلين، وكان المفروض أن يحصل على جائزة كما أشار غير مرة في عدد من أفلام السيرة الذاتية، إذ يؤكد أنه كان مرشحاً لجائزة عن دوره في «باب الحديد» بمهرجان «برلين» لكنه لم يحصل عليها، لأن المنتج لم يدفع له ثمن التذكرة حتى يسافر مع الفيلم. لكن الحدث الأهم أنه في عام 1979، كان شاهين على موعد مع جائزة الدب الفضي، وهى واحدة من أهم أربع جوائز حصلت عليها السينما المصرية على مدار تاريخها. وحتى لو اعتبر بعض النقاد أن شاهين لم يفز بجائزة الدب الفضي تقديراً له، إنما بسبب بقائه في المسابقة بعد انسحاب كل دول المعسكر الاشتراكي احتجاجاً على الفيلم الأميركي «صائد الغزلان» المعادي لفيتنام، فهذا لا يعني أن «إسكندرية ليه» لا يستحق الجائزة، بل كان جديراً بها، فلا أحد ينكر أنه الفيلم الذي افتتح تياراً جديداً ومهماً في السينما العربية... هو تيار سينما السيرة الذاتية، وبه أصبح «يوسف شاهين» رائد السيرة الذاتية في ميدان الفن السابع في العالم العربي. بعد الدب الفضي لـ «إسكندرية ليه» اختفت المشاركة المصرية من مهرجان برلين لمدة أربع سنوات، وحتى عندما عادت في عام 1984، جاءت على سنوات متفرقة ولم تكن داخل المسابقة الرسمية، إنما في البرامج الموازية. من بين الجوائز التي حصلت عليها الأفلام العربية الأخرى في برلين جائزة «برلين اليوم» عام 2004 التي فاز بها الفيلم القصير «برلين بيروت» للمخرجة اللبنانية ميرنا معكرون، والذي امتدحه النقاد لشاعريته وخصوصيته، إذ يقارن بين ماضي الحرب والانقسام الذي عانت منه المدينتان والحلم المستحيل بالتخلص من هذا الماضي. وفي تلك الدورة أيضاً قدم المخرج اللبناني عمر نعيم فيلمه «القطع الأخير» (Final cut) من إنتاج أميركي، والذي قام بالدور الرئيسي فيه روبين وليامز. أما في عام 2005، فشارك هاني أبو أسعد بفيلمه «الجنة الآن» داخل المسابقة الرسمية. وللمرة الأولى في تاريخ برلين فاز يومذاك مخرج فلسطيني بجائزة «الملاك الأزرق» لأحسن فيلم أوروبي وهي الجائزة الوحيدة من جوائز لجنة التحكيم الدولية التي لها مقابل مالي (25 ألف يورو) إلى جانب قيمتها الأدبية. وأيضاً للمرة الأولى في تاريخ السينما فاز يومذاك فيلم من جنوب أفريقيا بجائزة ذهبية من جوائز المهرجان الكبرى الثلاث وهو فيلم «كارمن من كايسلتيس» إخراج مارك دونفورد. كما فاز الفيلم الألماني - اللبناني - السويسري التسجيلي الطويل «مجازر» إخراج لقمان سليم ومونيكا برغمان وهيرمان تيسين بجائزة الفيبريسي كأحسن فيلم عرض في البانوراما وموضوعه مجازر صبرا وشاتيلا في لبنان، وفاز الفيلم الإيراني - العراقي «السلاحف الطائرة» إخراج بهمن قبادي الذي عرض في مهرجان أفلام الأطفال الـ28 بجائزة برلين السينمائية للسلام وشهادة تقدير من لجنة تحكيم الشباب في المهرجان.
مشاركة :