«مضناك جفاه مرقده»، عمل أدبي شعري وطرب موسيقي يلامسان الخلود في وحدتهما، عمل يمزج النغم بالكلم في باقة راقية من الجمال، يجمع بين سيد الأدب أمير الشعراء أحمد شوقي، وأمير الطرب الأصيل فارس الإبداع الموسيقي محمد عبدالوهاب، عمل خالدٌ يخلد بخلوده في ذاكرة العرب سيد الكلم وسيد النغم... إن هذا الخلود الجامع بين شوقي وعبدالوهاب هو ذات الخلود الجامع بين الشاعر الألماني فريدريش شيلر والموسيقار العظيم بيتهوڤن في السيمفونية التاسعة، والتي يختتمها بيتهوڤن في الحركة الرابعة بوصلة غنائية رائعة من شعر شيلر «أنشودة السعادة»... وبموازاة شعر شيلر فإن قصيدة «مضناك جفاه مرقده» هي «أنشودة الحب». القصيدة هي معارضة شعرية لقصيدة أندلسية تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي، والشعر المُعارضُ من أحمد شوقي هو للشاعر الأندلسي الضرير علي بن عبدالغني الفهري الحصري القيرواني، أبو الحسن من شعراء العصر الأندلس توفي سنة 488هـ / 1095م وهو شاعر مشهور كان ضريراً من أهل القيروان، انتقل إلى الأندلس ومات في طنجة، ومطلع القصيدة هذان البيتان: يا ليلُ.. الصَبُّ متى غَدُهُ؟ أقيامُ الساعةِ مَوْعِدُهُ؟ رَقَدَ السُمّارُ فأرَّقَهُ أسَفٌ للبَيْنِ يُرَدِّدُهُ ويختتم القصيدة بهذين البيتين: ما أحلى الوَصْلَ وأعْذَبُهُ لولا الأيّامُ تُنَكِّدُهُ بالبَيْنِ وبالهجرانِ فيا لِفُؤَادِيْ كيفَ تَجَلُّدُهُ ومعارضة الشعر هو فن وإبداع في الشعر، فعندما يستحسن شاعرٌ شعراً لغيره من الشعراء فإنه يستلهم من ذاك الشعر شعراً يحاكيه في الموضوع والقافية والبحر، وهو بهذا العمل الأدبي لا يعتبر مقلداً ولا مقتبساً، بل مبدعاً، ومضيفاً إلى موضوع الشعر الأصلي بعداً آخر في مفاصل الشعر ومعانٍ أخرى جديدة، وكأنه يكمل الشعر بشعر، فقصيدة «مضناك جفاه مرقده» لأحمد شوقي هي تكملة مبدعة لقصيدة الشاعر القيرواني التي مطلعها «يا ليلُ الصَبُّ متى غده أقيامُ الساعةِ مَوْعِدُهُ». أمير الشعراء في معارضته لشعر القيرواني يبدأ قصيدته بهذين البيتين: مُضْنــــاك جفـــاهُ مَرْقَـــدُه وبَكــــاه ورَحَّــــمَ عُـــوَّدُهُ حــــيرانُ القلــــبِ مُعَذَّبُـــهُ مَقْـروحُ الجَـفْنِ مُسهَّدُهُ ويختتم القصيدة بهذه الأبيات الثلاثة: وقـــوامٍ يَــرْوي الغصــنُ لــهُ نَسَــــبًا والــــرمح يُفَنّـــدُهُ وبخــصْرٍ أوْهــنُ مــن جَــلَدي وعــــوادي الهجْـرِ تبـدِّدُهُ مــا خُــنْتُ هــواكِولا خَـطَرَتْ سـلوى بالقلبِ تُـبرِّدُهُ معارضة شوقي لشعر القيرواني تأتي من حس شاعري مرهف راقٍ، فرأى شوقي في القصيدة مساحات شعرية، من واجبه كشاعر ملؤها بإضفاء أحاسيس شاعرية أخرى لم يتطرق إليها القيرواني، فليس لهذه الاحاسيس من حدود ؛ فقد سبق شوقي شعراء آخرون ساهموا بمعارضاتهم لشعر القيرواني، ولكن، وبشهادة من كبار الشعراء والنقاد فإن معارضة شوقي كانت هي الأرقى والأنقى. من حسن حظ الإنسان العربي أن أمير الشعراء أحمد شوقي كان قد تبنى أدبياً وثقافياً الموسيقار محمد عبدالوهاب، منذ أن كان عبدالوهاب في بداية بداياته الفنية، فأخذ عبدالوهاب من شوقي محاسن الأدب ورقي تذوق الشعر، فزاوج عبدالوهاب موسيقاه الراقي بأرفع الأشعار، فكان يقتني من الشعر أرقاه ذوقاً وأجمله بناءً، لحن وغنى لكثير من الشعراء وفي مقدمتهم أشعار شوقي. قصيدة «مضناك جفاه مرقده» عاشت في نفس عبدالوهاب زمناً وهو يسبر غور معانيها الخفية و الظاهرة، ويتحسس جمالياتها، إلى أن تيقن أن الوقت قد حان ليترجم ويفسر القصيدة بأنغام الوتر وتغريدات آلات الأوركسترا، ولسوء حظ شوقي فإن هذا التيقن قد جاء متأخراً، فبعد عشر سنوات من وفاة شوقي أبدع لنا عبدالوهاب رائعته الموسيقية الغنائية «مضناك جفاه مرقده». لم يجهد عبدالوهاب نفسه كثيراً في التأليف الموسيقي، فقد كانت الروح الموسيقية لهذه القصيدة تنمو في ذهنه يوماً بعد يوم على مدى السنين، فكانت نفسه دون وتر ولا نغم تعد العدة لعمل موسيقي يتوازى مع منزلة القصيدة. اختار عبدالوهاب مقام حجاز كار، كمقام رئيسي للأغنية من البداية إلى النهاية، وقد انعطف عن مقام حجاز مرتين، مرة إلى مقام راست عندما غنى «جحدت عيناك زكي دمي...» والثانية إلى مقام بياتي عندما غنى «بيني في الحب وبينك ما لا يقدر واشي يفسده...» وقد مهد لغناء الراست بفاصل موسيقي من نفس المقام، ومن ثم العودة إلى مقام الحجاز عندما غنى «مولاي وروحي في يده...» ويتابع الغناء على هذا المقام عندما يغني «قسماً بثنايا لؤلؤها...»، وهو بهذه النقلة إلى المقام الرئيسي قد مهد للعودة إلى لحن المقطع الأول دون تغيير المقام في «الحسن حلفت بيوسفه...»، ويختتم الأغنية على مقام الحجاز. ينتقل عبدالوهاب من مقام إلى مقام، وهو بهذه النقلات من مقام الى مقام يتحكم في خيوط النغم ويصيغها بعبقرية فذة، مثلما صاغت عبقرية شوقي رائعته الشعرية...
مشاركة :