«الضرب في الصغر والعنف في الكبر»

  • 12/4/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بخبرين أحدهما محلي والآخر دولي، والجامع بينهما أنهما حدثان في مدرستين أي في مؤسستين تربويتين تعنيان بتنشئة أجيال المستقبل. مدرس في جيزان يضرب طالباً بسلك كهرباء على وجهه لمجرد أنه انتظر عند المقصف ليشتري قنينة ماء. تلميذ سوري في مدرسة ابتدائية في هديرزفيلد يتعرض للضرب من طالب بريطاني يفوقه حجمًا وسنًا ليس لأي سبب إلا أنه ابن أسرة لاجئة. والغريب أن يد الشاب المكسورة لم تشفع له، فتحامل المسكين على نفسه وحمل وجدانه الكسير، وعلت وجهه أقسى تعابير الحزن والألم وانسحب بهدوء. التعاطف البريطاني مع التلميذ السوري فاق كل التوقعات، كما هو الاستنكار الشعبي في المملكة لضرب الطالب السعودي. استضافت إحدى الفضائيات التلميذ السعودي وتكلم بكل بشجاعة عما حدث ويحدث في مدرسته، وذكر أنهم معتادون على الضرب بسلك الكهرباء وغيره من مرشد المدرسة التربوي، وأنه لا يرى في ذلك مشكلة! وعند سؤاله هل ذهب للمدير؟ أجاب أنه فعل ذلك فأخبره المراقب مستهزئًا أن «المدير مات»، أي غير موجود. وأردف أن الجميع وعلى رأسهم المدير يضربون الطلاب، والضرب جزء لا يتجزأ من التربية في مدرسته. وكما تبدوا الأمور فإن الضرب وتعنيف الطلاب لم يختف من مدارسنا قط. وأتذكر أن احدهم أخبرني أن مدرس مادة التفسير في المتوسطة قبل عدة عقود ضربه على وجهه بالخيزرانة، واستمر يضربه حتى هرب خارج غرفة الفصل. وكان ذلك بحجة أني لم ينقل ما كتب على السبورة. والحقيقة أن ذلك انتقام شخصي لأنه في اختبار سابق لم يسلم الورقة ويخرج مبكرًا ليترك للمدرس المجال ليغشش طالب آخر. حضر والده ومدير المدرسة رحمهما الله وكان وضع المدرس مثيرًا للشفقة وهو يستجدي الصفح ويطلب عدم الرفع لإدارة التعليم. وحدث في مناسبات عديدة أن ذهبت للمدرسة لاعترض على تعدي بعض المدرسين بالضرب على الأبناء أو بعض الأقارب بسبب أو غير سبب، فالضرب جزء من ثقافتنا التربوية. وفي إحدى المرات التي حضرت فيها للمدرسة شاهدت «المرشد» يحمل غصن شجرة ضخم مخيف في يده فقلت له مداعبًا: أتمنى ألا يكون ذلك لضرب الطلاب؟ فأجاب: أجل لماذا؟ فقلت له: هذا مخيف! فرد: هل تريديني أن أحمل في يدي «طاقية»، هاللي تشوف وعساه ينفع! العنف حسب علماء النفس والاجتماع سلوك متوارث. والمعنِف لا يؤدب الأولاد بعنفه بل يخلق لديهم جروحاً نفسية تعدهم ليكونوا قساة ومعنفين لغيرهم في المستقبل. وتشير الدراسات إلى أن أغلبية من يمارسون العنف في كبرهم كانوا ضحايا للعنف صغاراً. فالمرشد الذي ضرب الطفل بسلك الكهرباء سبق ربما وضُرب بشكل مشابه في صغره. والطالب الذي تنمر على الطالب السوري بكل قسوة هو نتيجة تربية قاسية في طفولته. فأغلبية ممارسي العنف، وأصحاب الشخصيات المجرمة في أوروبا هم نتاج تربية أسر مفككة يمارس العنف فيها بشكل يومي. ولا بد من تثقيف من يشغلون وظائف تربوية بأضرار العنف وانعكاساته الخطيرة المستقبلية على شخصيات الطلاب، فمن تضربه اليوم قد يكون مدرسًا لابنك مستقبلاً ويمارس معه التصرف ذاته. وقد يجد بعض من يعملون في سلك التعليم صعوبةً في فرض الانضباط أو الحد من تنمر بعض الطلاب على زملائهم، وهذا أمر طبيعي ومعتاد في بعض مدارسنا التي يجبر فيها الطلاب على الخضوع لأمور انضباطية مشددة لمدد طويلة، وفي مدارس تعتمد التلقين الممل ولساعات طويلة وتفتقد عادة لوسائل تحبيب الطلاب في المدرسة. والقضاء على ممارسة العقاب البدني للطلاب، أو التخلص من التنمر بشكل كامل أمر غير ممكن، والممكن فقط هو تخفيف حدته وتقليص نطاقه، وهذا أيضًا يحتاج ربما لأجيال. ولذا فعلى جهاتنا التعليمية مواجهة الأمر بواقعية، والابتعاد عن التشدق بمثاليات لفظية وبيروقراطية تبعدها عن واقع الممارسات الفعلية. نحتاج للتخلص من العنف المدرسي بكافة أشكاله، ولكن ذلك يتطلب جهودًا توعوية وتربوية ضخمة. ويتطلب أن يشغل وظائف مديري المدارس، والإرشاد التربوي تربويون مؤهلون، وألا تكون هذه الوظائف عبئًا بيروقراطيًا على من يشغلها. ونحتاج أيضًا لتضافر الجهود التوعوية على كافة مستويات الإعلام. فما مظاهر التنمر والدرباوية في شوارعنا إلا نتيجة لما يمارس ضد الأطفال في المنازل أو الطلاب في المدارس. وإدارة التعليم تتطلب أكثر من توفير المباني أو الكتب، وتتطلب جهدًا تربويًا يشارك فيه المجتمع بكافة قطاعاته.

مشاركة :