كلوي كورنيش من بيروت على سطح أحد المنازل في بيروت، تعكف لارا الخالد، التي تبلغ من العمر 15 عاما على قراءة كتاب يتحدث عن غرق سفينة التايتانيك. تقول وهي مبتهجة باللغة الإنجليزية: "أشعر بالحزن على الرجل، لكنني سعيدة أن المرأة قد نجت"، مشيرة إلى العاشقين اللذين يروي هذا الكتاب قصتهما، قبل أن تسترسل في حديثها بلهجتها السورية عن الحقائق المتعلقة بهذه الرحلة البحرية المنكوبة: لقد سارت أربعة أيام في البحر، وغرقت خلال ثلاث ساعات. كتب التمارين ملقاة وهي مفتوحة على الأرض، حيث تقوم بمساعدة إخوتها الأربعة في حل الواجب البيتي. يصل ضوء من خلال نافذة مفتوحة. وأسفل ذلك الضوء تمتد شوارع معتمة ومزدحمة، حيث الهواء كثيف بسبب أبخرة الديزل المنبعثة من الدراجات ورائحة القمامة المتعفنة. وهنا في الشقة المرتبة التي تستأجرها أسرتها، تبدو هذه الفتاة الغريبة والذكية التي تريد أن تصبح ممرضة في المستقبل، بعيدة كل البعد عن هذا العالم. لارا سورية الجنسية، وقد فرت أسرتها من الحرب الأهلية الدائرة في البلاد قبل ست سنوات، بعد أن سعت إلى اللجوء في لبنان. والحي الذي قررت العائلة العيش فيه هو ذلك النوع من الأحياء التي هي علامة على الحروب التي عصفت بتلك المنطقة، والتي أنشأها الناس الذين نجوا من تلك الحروب. هذا هو مخيم شاتيلا، مخيم اللاجئين في الضاحية الجنوبية لبيروت، الذي تأسس هنا منذ 70 عاما. تم بناء هذا الحي الفقير المليء بالتعرجات على مدى عقود من قبل أشخاص فروا من الصراع والفقر، قرن من الهجرة التي شكلت مستقبل لبنان – وهو بلد صغير له حدود مع كل من سورية وإسرائيل - مثل قوة جيولوجية. هرب الأرمن إلى هنا في أوائل القرن العشرين، ومن ثم بدأ الفلسطينيون في الوصول عام 1948، عندما تسبب إنشاء إسرائيل في تشريد مئات الآلاف عبر الحدود. والسوريون هم آخر من جاء بحثا عن مأوى، بعد فرارهم من الحرب الأهلية التي تدخل عامها الثامن. لبنان، في وجود عدد سكان يصل إلى 4.5 مليون نسمة، لديه الآن عدد إضافي من اللاجئين السوريين بحدود 1.5 مليون نسمة وأكثر من ربع مليون مواطن فلسطيني، ما يعطي البلد أكبر عدد من اللاجئين للفرد الواحد في العالم. هنالك 12 مخيما آخر للاجئين الفلسطينيين منتشرة عبر لبنان، معظمها يقع داخل أحياء فقيرة. زرت مخيما آخر في بيروت، يدعى برج البراجنة، وهنالك مخيم آخر أصغر حجما في العاصمة يدعى مار إلياس. يقع مخيم شاتيلا في منطقة عقارية راقية، في وسط المدينة، ومع ذلك هو مخيم مخفي إلى حد كبير عن المجتمع اللبناني. تقول منى حرب، أستاذة الدراسات الحضرية والسياسة في الجامعة الأمريكية في بيروت: "إن كنت تعيش في منطقة بلدية بيروت، فإن المخيمات غير مرئية بالنسبة لك". الحكومة اللبنانية غير موجودة هنا. وكالات الإغاثة تقدم الخدمات، على الرغم من أنها تعاني بشكل متزايد للحصول على التمويل. المخيم مكتظ بشكل حاد. يعيش هناك ما لا يقل عن 14 ألف شخص، تسعة أضعاف عدد السكان الذين كانوا موجودين عام 1992. مخيم شاتيلا، المطوق بأحياء أخرى، لا يمكنه استيعاب أي قادمين جدد؛ لأن طاقته الاستيعابية التي هي نحو كيلومتر مربع واحد لا يمكن زيادتها. لقد بدأت قطع الأراضي في النفاد ضمن المقبرة. ومن الشائع للمبنى المكون من ستة طوابق، مع وجود أربع غرف في كل طابق، أن يستوعب 24 أسرة. يقوم السكان ببناء توسعة إلى الأعلى، إما بإضافة طابق هنا، أو ممر إضافي بين المباني هناك، وغرفة إضافية على سطح البيت- مثل بيت لارا- حتى يبلغ ارتفاع تلك المباني الإسمنتية إلى مستوى عال يصل إلى سبعة طوابق، تقترب من بعضها بعضا بحيث تحجب أشعة الشمس. ليس هنالك أي تخطيط، ولا إنفاذ لأنظمة البناء، على الرغم من حقيقة أن لبنان يقع على شق صدع زلزالي. تمارس أسرة لارا أعمالها اليومية من دراسة وأكل ونوم في هذا المنزل المكون من غرفة واحدة. المنزل حار جدا في الصيف وبارد جدا في الشتاء، لكن على السطح يستطيع الأطفال على الأقل رؤية السماء. الغرفة مرتبة ونظيفة بدرجة عالية، والأطفال مرتبون وفي حالة نظيفة، يلعبون مع دجاجة صغيرة قبضوا عليها في الشارع، ويعتنون بها في البيت كما لو أنها حيوان أليف. لم يكن ذلك المكان على هذه الحال عندما انتقلوا إلى العيش فيه. من خلال المال والمساعدة الهندسية التي قدمتها جمعية مأوى من أجل الإنسانية، وهي جمعية خيرية دولية للإغاثة السكانية، تمكن والد لارا، موصف، من سد الثقوب وطلاء الجدران وتركيب حمام مناسب، وإصلاح إمدادات الكهرباء. ويقول: "الآن، أصبح الوضع رائعا". في لبنان، عملت الجمعية الخيرية على إصلاح وتحسين 260 منزلا خلال العام الماضي، حيث ساعدت السوريين والفلسطينيين واللبنانيين الفقراء. منذ عام 2001، قدمت المساعدة لأكثر من 4500 أسرة في البلاد. إن هدفها يتضمن جعل مكان الإقامة الأكثر فقرا أكثر أمانا وأوفر كرامة. من خلال ميزانية تصل إلى 1500 دولار للبيت الواحد، تقوم إما بدفع المال للمستأجرين ليقوموا بعمل الإصلاحات بأنفسهم، أو مساعدتهمعلى العثور على العمل والمواد. وتراوح أعمال الصيانة بين تركيب النوافذ والأبواب وتقديم أعمال السباكة أو إصلاح المتداعية التي يتسرب منها الماء. فريق هذه الجمعية الخيرية في لبنان صغير، يتكون من 24 شخصا فقط، ويضم مهندسين وإخصائيين اجتماعيين ومختصين في التقييم ومحاسبين. يقول ريتشارد كوك، مدير قسم الشرق الأوسط، إن العدد يمكن أن يزيد، اعتمادا على الأموال التي تستطيع الجمعية جمعها. ويفسر قائلا: "إنه صراع دائم يتمثل في الحصول على الحجم المناسب من التمويل". كان المال شحيحا بصفة خاصة خلال العامين الماضيين، مع استمرار الأزمة السورية وجميع أنواع الكوارث الأخرى، الطبيعية التي من صنع البشر، والتي تتنافس للحصول على أموال المساعدات الإنسانية. يضيف كوك، ومهنته مساح مرخص قضى 27 عاما لدى وكالة الأمم المتحدة للاجئين الفلسطينيين، قائلا: "كانت حقا حالة من الإجهاد التدريجي لدى الجهات المانحة". تسعى الهيئة للحصول على جهات مانحة مؤسسية، مثل الحكومات، لتوسيع نطاق عملها. لا تكتمل أي زيارة لمخيم شاتيلا دون زيارة موقع الكنز الدفين غير المتوقع في المخيم. خلف باب حديدي واه في أحد الأزقة يوجد متحف مكون من غرفة واحدة أنشأه رجل يدعى محمد عيسى. يتبرع اللاجئون بمصنوعات يدوية من فلسطين - أدوات زراعية تعرضت للصدأ، وأوان فخارية ونموذج لسفينة شراعية - ما عمل على تحويل تلك الغرفة إلى رمز للمقاومة من خلال الذاكرة. وصل عيسى إلى لبنان وهو طفل صغير، واحد من كثير من الفلسطينيين الذين تشردوا عام 1948 بسبب ما أصبح يعرف باسم النكبة. توجهت أسرته إلى جنوب لبنان. في الوقت نفسه، نصب اللاجئون الفلسطينيون خياما لهم على أرض مفتوحة تقع بالقرب من بيروت، أصبحت فيما بعد مخيم شاتيلا. انتشرت المخيمات التي من هذا القبيل في معظمها في المناطق التي كان فيها طلب على الأيدي العاملة الرخيصة. والبيوت الإسمنتية المنتشرة أصبحت مناطق انطلاق للمقاومة الفلسطينية المسلحة. سحبت الحكومة اللبنانية الوصاية التشريعية على تلك المخيمات عام 1969، في العام نفسه الذي غادر فيه عيسى للدراسة في إسبانيا. في عام 1975، انهار التوازن الطائفي المتوتر في لبنان، وتحول إلى قتال بين الطوائف المسيحية والدروز والمسلمين السنة والفلسطينيين - من خلال التناحر الداخلي بين الطوائف. في الحرب الأهلية التي أعقبت ذلك، أصبحت مخيمات اللاجئين ساحات للمعارك. بعد أن تشردت مرتين داخل لبنان بسبب القتال، أنهت والدة عيسى رحلتها أخيرا في شاتيلا. ويقول إنه انتقل للعيش في المخيم عام 1979، على أمل العودة يوما ما إلى فلسطين. هناك، تمكنوا من النجاة بعد المذبحة التي وقعت عام 1982 وثلاث سنوات من القتال عملت على تحويل أجزاء كبيرة من المخيم إلى أنقاض. على الرغم من أن الهدف الأولي من بناء هذه المخيمات هو أن تكون بمنزلة ملاجئ مؤقتة، إلا أن المخيمات التي مثل شاتيلا أصبحت أماكن إقامة دائمة. لقد عاشت بعض الأسر هنا أجيالا. يقول البروفيسور ناصر ياسين، مدير بحوث السياسة العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأمريكية في بيروت، إن الناس يتشبثون باستخدام كلمة "مخيم"؛ لأنها تدعم الانطباع الذي يوحي بالوجود المؤقت. بالنسبة لكثير من الفلسطينيين، "يجسد المخيم فكرة أننا سنعود يوما ما إلى بلدنا، إلى موطننا". على أن ذلك الأمل آخذ في التلاشي. تعثرت عملية السلام. وتواصل الحكومة الإسرائيلية اليمينية الموافقة على إنشاء مستوطنات إسرائيلية في الضفة الغربية. كما اعترفت إدارة ترمب بالقدس عاصمة لإسرائيل، وقطعت التمويل المقدم لمنظمة الأمم المتحدة للإغاثة، المخصص لدعم اللاجئين الفلسطينيين. يحظر على الفلسطينيين المقيمين في لبنان امتهان ما لا يقل عن 39 وظيفة بما فيها القانون والطب، حتى شراء العقارات. وتدفعهم مثل هذه السياسات إلى أن يصبحوا على هامش المجتمع، ما يؤدي إلى ردعهم من القدرة على التفكير في أن يصبح لبنان بلدا لهم. اليأس ينتشر في المجتمع الفلسطيني في شاتيلا، بحسب ما يقول عيسى، الذي أصبح الآن في السبعين من عمره. ويقول: "عندما كنت طفلا، كانت كل الأسر تريد أن يتعلم أبناؤها. أما الآن فهم لا يريدون ذلك. أصبح مخيم شاتيلا مكانا "لا يمكن العيش فيه". وهذا في جزء منه هو المجال الذي تسعى هيئة مأوى من أجل الإنسانية إلى إحداث تغيير فيه، من خلال جعل السكن الذي يشتمل فقط على الأساسيات مكانا لائقا أكثر، ومن خلال تقديم المساعدة لأشخاص يشعرون بأنهم مستضعفون، وأنه تم التخلي عنهم. في غياب الدولة، تحاول الهيئة أيضا جعل المخيمات أماكن أكثر أمنا. في مخيم شاتيلا، هنالك أكوام متشابكة من الأسلاك وأنابيب السباكة منتشرة في كل مكان، مع تساقط للمياه من الأسلاك الكهربائية المكشوفة، التي تندفع إلى الأدنى عندما تصبح ثقيلة جدا. يعمل موظفو الهيئة على عزل الأسلاك وفصلها عن الأنابيب، من خلال تركيب علب للحفاظ عليها منفصلة، ما يسمح بدخول الضوء. هذا حل بسيط، لكن ليس لديهم المال لاستكمال العمل في المنطقة كلها حتى الآن. خطر التعرض لصعقة كهربائية منتشر في كل أنحاء المخيمات، مع حالات وفاة كثيرة يتم الإبلاغ عنها كل عام. هذا العام، تعرض علي عيسى، سباك فلسطيني يبلغ من العمر 26 عاما "ولا تربطه صلة قرابة بمحمد"، لصعقة كهربائية بسبب الأسلاك الخطرة في شاتيلا، ما أدى إلى وفاته. بينما كنت أتجول في المخيم برفقة ريتشارد كوك من الهيئة، صادفتنا كتلة خرسانية في الشارع، مساحتها نحو قدم مربع. نظر كوك إلى الدرج المتهالك المؤدي إلى الطابق الثالث الذي وقعت منه القطعة. بدا واضحا أن دعامات الهيكل الأساسي للمبنى متهالكة. تراجع قليلا إلى الوراء. ويقول: "الأسمنت مصنوع باستخدام مياه مالحة". الهياكل آخذة في التآكل من الداخل. في العقود التي عمل خلالها في المخيمات الفلسطينية، يقول كوك: "لم أر أبدا ظروفا سيئة كهذه الموجودة اليوم". الكهرباء والخرسانة المتداعية ليست المخاطر الوحيدة في مخيم شاتيلا. مثل كثير من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، التي أصبحت ساحات معارك خلال الحرب الأهلية اللبنانية بين عام 1975 وعام 1990، شهد مخيم شاتيلا عنفاً رهيبا. في عام 1982، كان موقعاً لواحدة من أسوأ فظائع القرن العشرين في الشرق الأوسط، عندما قُتل الآلاف من الفلسطينيين والشيعة اللبنانيين في المخيم والشوارع المجاورة على يد مقاتلين مسيحيين. وفي وقت لاحق، اتهمت لجنة إسرائيلية القوات الإسرائيلية المحتلة، مع المقاتلين المسيحيين، بالمسؤولية غير المباشرة عن المجزرة. كثير من السكان عانوا الصدمات. سوسن علي السيد، صاحبة متجر فلسطينية شابة ولدت في لبنان، تمشي عبر بِرك الماء الراكدة وأكوام من القمامة، التي في بعض الأحيان تحتوي على الإبر، للوصول إلى منزلها. غداً سيكون عيد ميلادها الثالث والثلاثين. عندما سُئلت كيف تنوي الاحتفال، أطلقت سوسن ضحكة قاتمة. زوجها السابق الذي كان يعاملها معاملة سيئة كان لبنانياً. تركته بعد ثمانية أعوام، لكن ليس قبل أن يُحطم كل أسنانها العلوية. الشقة المظلمة في الطابق الأول التي تعيش فيها تعود لشقيقها، الذي قُتل عندما قامت الجماعة الإرهابية داعش بقصف مخيم برج البراجنة للاجئين في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 2015. الآن تدفع سوسن الإيجار لأطفال شقيقها الثلاثة الأيتام. قبل أن تساعدها منظمة مأوى من أجل الإنسانية على إصلاح المكان، لم تكن فيه أبواب أو نوافذ مناسبة. الناس الذين يظنون أن زاوية زقاقها هي كومة قمامة، يقومون برمي القمامة فيها. الفئران عضتها عدة مرات. تتنهد قائلة: "الفقر ليس شيئاً يدعو للخجل، لكن ماذا يُمكنني أن أفعل، أنا وحدي". يدخن بعض الأفراد خارج نافذتها، ولا يُمكنها فعل كثير لمنعهم. تقول سوسن: "مهما كنت قوية، أنا أخشى على ابنتي، ليس على نفسي". تبلغ ابنتها من العمر خمسة أعوام ونصف. في عام 2013، بعد 65 عاماً من وصول الفلسطينيين أول مرة، بدأ مئات السوريين الخائفين في عبور الحدود السورية - اللبنانية. ردت الحكومة اللبنانية من خلال المجادلة حول ما يجب تسميتهم. كانت كلمة لاجئين تحمل التزامات دولية لا ترغب الحكومة اللبنانية في تحملها "لم توقّع لبنان على معاهدات الأمم المتحدة التي تحمي حقوق اللاجئين"، وجادل المسؤولون بأن عليهم استخدام مصطلح مختلف. هيثم السيد، الموظف في وزارة الشؤون الاجتماعية الذي حضر اجتماعات الحكومة، يقول إنه اقترح كلمة ضيوف. في نهاية المطاف، اختارت الحكومة كلمة نازحين. عادة هذا ما يُشير إلى أشخاص داخل بلدهم، ما يدل على أنها ظاهرة مؤقتة. لم يخطر على بال أحد، وفقاً لهيثم السيد، أن السوريين سيبقون أكثر من ثلاثة أشهر. مع درجة ماجستير في إدارة الأعمال، انتهى به الأمر بالصدفة إلى أن يُصبح منسقاً للاجئين في بيروت والجنوب، حيث قضى أشهراً في رعاية السوريين في كل أنحاء معبر المصنع الحدودي. توضح الأستاذة حرب: "بالطبع السياسة مدركة تماما للوضع، بحكم خبرتها من وضع اللاجئين الفلسطينيين. في عام 1948، كان هناك شعور بأننا ’نستضيفهم ...‘ حيث قدّم الناس أراضيهم الخاصة لإقامة الخيم.. مقتنعون بأنها مسألة أسابيع، أو أشهر، ومن ثم سيعودون". حقيقة ما تبع ذلك – بما في ذلك الحرب الأهلية عام 1975 – تركت كثيرا من السياسيين اللبنانيين يشعرون بتناقض عميق حول كيفية الرد على الآتين في المستقبل. بشكل حاسم، يعتمد نظام الحكم في لبنان على تقاسم السلطة بين الطوائف المختلفة. يخشى المسيحيون والأقليات من أن أعداد السكان المسلمين السنّة والشيعة المتنامية ستتفوق عليهم. كل من اللاجئين الفلسطينيين والسوريين هم من السنّة في الغالب، في حين أن اللبنانيين الأكثر فقراً هم من الشيعة إلى حد كبير. تخشى النخب السياسية في لبنان من الاعتراف بأن نسبة المسيحيين إلى المسلمين لم تعُد 50:50 إلى درجة أن الحكومة لم تُجر أي إحصاء لعدد السكان منذ عام 1932. خوفاً من أن تُصبح مخيمات اللاجئين السوريين نسخة طبق الأصل من مخيم شاتيلا، رفضت لبنان التصريح لأي منها. انتهى المطاف ببعض السوريين بالفعل في مخيمات مؤقتة، لكن البقية اختفوا في مساكن لبنان غير الرسمية. يعيش كثيرون إلى جانب اللاجئين الفلسطينيين في مدن الصفيح؛ والبعض يستأجر منازل أساسية في المناطق الريفية؛ ويشتري السوريون الأغنياء في وسط بيروت، حيث الشقة العادية تكلّف مليون دولار. كان لدى لبنان أزمة في المساكن ذات الأسعار المعقولة قبل وصول اللاجئين السوريين. قطع الأراضي التي تقع عليها المخيمات الفلسطينية هي ما تدعوه منى فواز، المختصة في الشؤون الحضرية "احتياطاً ثميناً من المساكن ذات الأسعار المعقولة". أبو مروان، سمسار عقاري فلسطيني في مخيم شاتيلا، يجلس خارج مقهى ويشرح اقتصاد الإسكان غير الرسمي في المنطقة. يعيش من إدارة العقارات داخل مخيم شاتيلا، ويجمع الإيجارات، ويعقد الصفقات لأصحاب العقارات الذين يعيشون في مكان آخر في بيروت، ويأخذ نسبة. هناك أيضاً، لاجئ من سورية، بعد أن هرب مع أطفاله قبل ستة أعوام من مخيم اليرموك الفلسطيني في دمشق، الذي أصبح الآن خراباً بعد أعوام من الحصار والقصف. يوضح أبو مروان: "منذ أن جاء السوريون، زادت الإيجارات. هناك كثير من الاستغلال". عامل فلسطيني في منظمة غير حكومية في المخيم يُقدّر أن هناك زيادة تراوح بين 50 و100 دولار في الشهر. يقول أبو مروان: "هذا لأن الناس ليست لديهم أوراق ثبوتية سليمة". بفضل سياسات اللاجئين الغامضة وسريعة التغيير في لبنان، فإن كثيرا من السوريين هناك غير مسجلين رسميا. اعتماداً على كيف ترى الأمر، يتقاضى أصحاب العقارات علاوة على خطر التخلف عن السداد أو يستغلون الضعيف بشكل مؤلم. أموال المنظمات غير الحكومية، التي تساعد عائلات اللاجئين الأسوأ حالاً، ربما تكون قد ضخمت الأسعار أيضاً. بالنسبة لأصحاب العقارات، هذه الملاجئ الأساسية هي استثمار. يُقدّر أبو مروان أن تكلفة شراء أي شقة في مخيم شاتيلا تبلغ 20 ألف دولار. يبدو أن السوق نشطة: لوحات معلقة بالقرب من علب الكهرباء تُعلن شُققا للبيع وغرفا للإيجار. غرفة واحدة تستطيع أن تدر 200 دولار في الشهر. لتوفير المال، تعيش العائلات في مساحات ضيقة جداً. يُشير أبو مروان إلى الشارع المؤدي إلى منزل مكون من غرفتين يعيش فيه 22 سورياً. يقول: "بعض الأشخاص لا يملكون المال لشراء الخبز. أعود إلى صاحب العقار وأسأل إذا كان بإمكانه الصبر عليهم، وأحاول الحصول على مساهمات من المتاجر". امرأة سورية تبلغ من العمر 35 عاماً تعيش في شقة يُديرها أبو مروان تقول إنها دائماً تشعر بالقلق بشأن دفع الإيجار، فهناك نحو 250 دولارا في الشهر. منزلها المكون من غرفتين ومطبخ يحتوي على ستارة تستخدَم كباب، ولا يوجد دش حمام، لا نوافذ، ولا أسرّة – مجرد مراتب رفيعة في الغرفة الرئيسة. مياه المجاري تخرج أحيانا من المصاريف. مع ذلك تنوي شقيقتها الانضمام إليهم، الأمر الذي سيجعل إجمالي عدد الأطفال في الشقة يصل إلى 10. "لا تعودي إلى حلب"، هكذا أخبرت العائلة تلك المرأة. "إذا فعلت، ستموتين من الجوع". روسيا، التي تدعم حكومة الأسد في سورية حاولت تصوير سورية على أنها آمنة، وحوّلت المفاوضات الدولية نحو عودة اللاجئين السوريين. بعض السياسيين اللبنانيين يدعمون هذا بحماس. الخطاب ضد اللاجئين أصبح قاسياً، لكن الأمم المتحدة وغيرها من البلدان الغربية تؤكد أن سورية لا تزال خطيرة فوق الحد. ادعى وزير شؤون اللاجئين في لبنان الشهر الماضي، أن 20 لاجئا على الأقل من الذين عادوا من لبنان إلى سورية، قُتلوا على يد النظام. يقول ياسين: "العمال السوريون أعادوا بناء لبنان في التسعينيات"، موضحاً أن السوريين عبروا الحدود المليئة بالثغرات وقدّموا عمالة رخيصة بعد الحرب الأهلية في لبنان. "لم نكن نراهم.. لكن السوريين الآن في كل مكان". تقوم نساء سوريات يرتدين الأسود بالتسول في حركة السير في بيروت؛ أطفال سوريون يفتشون في صناديق القمامة، بحثاً عن الخردة المعدنية. يقول بحزن إن ظهورهم على مرأى من الناس أثار المشاعر المناهضة للاجئين في لبنان. في معظم الحالات، اللبنانيون الأكثر فقراً، وليس السياسيين الأثرياء، هم الذين استقبلوا اللاجئين في مناطقهم السكنية. يقول ياسين: "ليسوا من مرتادي الحفلات من الطبقة المتوسطة. الأشخاص الذين يشتكون أكثر من غيرهم ليسوا بالضرورة هم الذين يشعرون بالعبء". هناك نحو 87 في المائة من اللاجئين السوريين المسجلين و67 في المائة من اللبنانيين الأكثر فقراً يعيشون معاً في 251 منطقة من مناطق لبنان الأكثر فقرا. كما أن ما يُقدّر بـ 32 في المائة من اللبنانيين يعيشون في فقر. الركود الاقتصادي المتواصل جعل كثيرا من اللبنانيين يفقدون وظائفهم. مهندس لدى المنظمة غير الحكومية انضم إليها بعد أن وجد أنه لم يعد هناك مزيد من فرص العمل. أعمال الإنشاءات هي أيضا المجال الذي يجد فيه كثير من المهاجرين مكانا للعمل غير الشرعي، لكن لدى السوريين حقوق محدودة للعمل، ولا يحق لهم اللجوء إلى القانون إذا تعرضوا للاستغلال. كثير منهم عالقون في الديون، والظروف الصعبة بشكل متزايد دفعت كثيرا من اللاجئين إلى العودة إلى سورية، على أن من غير المعروف عدد الذين عادوا، ناهيك عن معرفة أوضاعهم بعد العودة.
مشاركة :