من المؤكد أن بابلو بيكاسو لم يكن يمزح حين أطلق على زميله الرسام الفرنسي فرنان ليجيه لقب «الأنبوبجي» لامتلاء رسومه وغيرها من أعماله الفنية بمختلف أنواع الأنابيب. كذلك فإن الدادائيين والمستقبليين وحتى السرياليين لم يكونوا مبالغين حين اعتبروا الفيلم الوحيد الذي حققه ليجيه في المجال السينمائي «الباليه الميكانيكي»، الفيلم الذي يعبر أكثر من أي عمل آخر عن الثورة الميكانيكية المستقبلية التي وصلت الى أوجها خلال الربع الأول من القرن العشرين. ومن هنا لم يستغرب أحد إزاء ذلك الانبهار الذي شعر به ليجيه تجاه نيويورك ليس فقط حين عاش فيها هرباً من الاحتلال النازي لبلاده الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية كما فعل عدد من كبار المبدعين الفرنسيين، بل قبل ذلك حين زارها زيارة شبه خاطفة عند بدايات العقد الثلاثيني (من أيلول - سبتمبر، الى كانون الأول - ديسمبر، 1931) فاكتشف حضارة ما كان خطر له وجودها على بال. حضارة سوف يقول هو نفسه في العديد من نصوصه، كما بخاصة في العديد من رسومه، انه لم يأتلف في حياته مع حضارة بقدر ما شعر بائتلافه معها. وهو كان عبّر عن هذا أول الأمر في لوحات صوّرت «نيويوركه» بأشكال متنوعة، قبل أن يعود الى نفس ذلك الموضوع في عدد كبير من لوحات سوف يرسمها لتلك النيويورك التي أُغرم بها ولا سيما في الزيارة الثانية التي كانت إقامة طويلة، بنحو خمسين لوحة وعملاً فنياً آخر وهو يقول صارخاً في تصريح أدلى به الى صحيفة «فنون واستعراض»: «هذه ليست بلداً... هذه عالم بأسره. عالم كل شيء فيه يبدو بلا حدود. عالم يجد المرء فيه انه يملك احتياطياً من القوة لا يمكنه تصوّر أين يمكنه أن ينتهي. عالم يمتلك حيوية لا تنتهي وحركة متواصلة». ترى ألا يبدو ليجيه هنا وكأنه يوصّف عالمه الفني نفسه؟ عالم لوحاته وفيلمه الميكانيكي، تماماً كما وُفّق بيكاسو في ربطه بأنابيبه؟ > أو لعل الرسام يوصّف بالتحديد تلك اللوحة الموجودة الآن معلقة في المتحف الوطني للفن الحديث في باريس والتي رسمها في عام 1946، عام عودته من منفاه النيويوركي راغباً منها في أن تكون تحيّته وفعل امتنانه الى تلك المدينة - العالم التي لا شك في انه دخل معها في حالة عشق ندر أن عاشها فنان فرنسي مع مدينة تقع على مثل ذلك البعد. والحقيقة أن تلك اللوحة لم تفاجئ أحداً حين رسمها ليجيه وعرضها في زحمة عودته الصاخبة الى باريس بعد أن انقشعت غيمة الاحتلال النازي. بل إن كثراً سوف يتساءلون: لم تأخر الفنان كل تلك السنوات قبل أن يوجه تلك التحية التي عنونها «وداعاً نيويورك»، الى الحاضرة الأميركية. > فالحال أن ليجيه كان ومنذ عام 1931، أي إبان زيارته الأولى لتلك المدينة، قد كتب نصّاً طويلاً لمجلة «كراسات الفن» بعنوان «نيويورك»، رسم فيه صورة قلمية تكاد تكون تخطيطاً حقيقياً للوحة التي سوف يرسمها بعد خمس عشرة سنة. ولنتأمل هنا، مقارنة باللوحة التي نتحدث عنها، بعض ما كتبه ليجيه عن نيويورك في ذلك النص: ليست السينما أضخم مشهد في العالم، ولا يمكن القول ان التصوير الفوتوغرافي أو التحقيق الصحافي يمكنهما أن يلتقطا ذلك المشهد ويزعما امتلاكه. فالمشهد الأضخم هو بالتحديد نيويورك. نيويورك في الليل، تلك التي نشاهدها انطلاقاً من الطابق الأربعين. فهذه المدينة عرفت كيف تقاوم كل الابتذالات وكل ضروب الفضول التي أبداها أشخاص حاولوا وصفها أو نسخ صورتها. وهي تحتفظ بطزاجتها، باللامتوقع كما بالمفاجئ في انتظار ذلك الزائر الذي يشاهدها للمرة الأولى. ها هو المركب ماخر البحر في حركته البطيئة، يزيح المنظورات تماماً، فنبحث عن تمثال الحرية، الهدية التي قدمتها فرنسا لنيويورك، فنعثر على تمثال صغير متواضع ضائع منسيّ وسط ميناء يتقدم قارة جديدة جريئة وعمودية في آن معاً. لا يمكننا أن نشاهد التمثال حتى ولو أنه يرفع ذراعه الى أعلى ما يمكن. فهو بعد كل شيء، ينير الأشياء كمنبّه صغير، وسط عالم ضخم يتحرك بأشيائه الضاجّة. تلك الأشياء التي غير مبالية به، تغطيه بظلها من كل جانب. يا له من بلد مدهش هذا الذي تبدو فيه البيوت أعلى من الكاتدرائيات، وينظف فيه النوافذ أشخاص تعد ثرواتهم بالملايين، وتنظّم فيه مباريات كرة القدم بين السجناء ورجال الشرطة. نيويورك الشفافة الرائقة ذات الطبقات الزرقاء الحمراء الصفراء. مملكة الجن التي لا مثيل لها تلك التي تفلت فيها كهرباء أديسون من عقالها ملقية نورها على كل هذا المشهد وجاعلة المباني الهندسية تبدو وكأنها أمطار تهطل. في نيويورك تبدو الأحياء الشعبية رائعة الجمال في كل لحظة. فثمة هنا طراوة وغنى في المواد الأولية. ثمة أحياء روسية وأخرى يهودية وإيطالية وصينية. ثمة الجادة الثالثة ومساء السبت حيث تبدو نيويورك وكأنها مارسيليا! ثمة دجاجات ذات ريش معلقة ضد ضوء النهار على خلفية سوداء... فيا لها من رقصة مقابرية! > كتب فرنان ليجيه هذا النصّ إذاً قبل خمسة عشر عاماً من رسمه لوحة «وداعاً نيويورك». غير أن قارئ النص وهو يتأمل في اللوحة سيخيّل اليه أنهما أُبدعا معاً، من جانب فنان سيقول عنه نفسه دائماً انه حين وصل الى نيويورك لم يكتشف مدينة- عالماً فقط بل اكتشف نفسه، اكتشف كل ما كان يريده من وجوده ومن فنه. ومع هذا سبق النص اللوحة زمنياً، ومن دون أن يعني هذا أنه مهد لها. فالحقيقة أنه لئن كان النص يقدّم صورة غير محدودة للمدينة التي بدت وكأنها تحقق المثل الأعلى الذي داعب مخيّلة فرنان ليجيه حول العالم الحديث، الذي هو «العالم الوحيد الذي ينبغي أن نعترف به ونتعرف اليه»، فإن صورتها المرسومة في «وداعاً نيويورك» كما في العديد من اللوحات الأخرى التي عاد بها من المدينة في عام 1946، تبدو أكثر رومانطيقية وأقل ميكانيكية بكثير. إذ صحيح هنا أن «ألوان الطوابق» التي ذكرها في النص المكتوب أتت متطابقة مع التوزيع اللوني الذي شاءه للوحة، وصحيح أن الحركة تلوح بقوة في تجريد يغالب عليه اللون الأسود- الذي ربما يكون لون الفحم وغيره من الوقود أو لون الدخان الصاعد من المداخن في الصباحات الشتائية، غير أن هذا، هذه الحركة والإيقاعات الميكانيكية، لا تمنع من ظهور العديد من الأشكال النباتية التي تضفي على اللوحة- وليس فقط على هذه التي نحن في صددها هنا بالطبع- نزعة ترتبط بطبيعة حقيقية معينة، كان من الصعوبة بمكان العثور عليها في النص المكتوب وها هو الرسام يحتفي بها هنا، الى درجة انه يبدّيها في بعض أجزاء اللوحة، على العالم الميكانيكي الذي يبدو على الدوام مهووساً به. ولا بد أن نشير هنا الى أن فرنان ليجيه لم يكن مهتماً بالطبيعة من جانب تلك اللوحات النيويوركية، التي لن تفلح على أي حال في أن تصبح أشهر لوحاته، حيث إن محبي عمله، فضلوا دائماً الجانب الميكانيكي و «الأنبوبي» الذي كثيراً ما طغى على فنه، في مراحله الأولى على الأقل. > ومهما يكن من أمر هنا، تبقى «وداعاً نيويرك» وغيرها من لوحات فرنان ليجيه (1881 - 1955) «الأميركية»، شاهدة ليس فقط على انبهار هذا الفنان بالعالم الجديد - وهو انبهار يشاطره إياه كثر من الفنانين الأوروبيين وغير الأوروبيين وربما يكون قد وجد أعمق تعبير عنه في تلك السيمفونية التي وضعها، كذلك في نيويورك، الموسيقي التشيكي دفوراك مطلقاً عليها بالتحديد اسم «العالم الجديد»، وسوف يكون من الممتع دائماً الإصغاء اليها مع تأمل لوحات ليجيه النيويوركية وقراءة النصّ الذي جئنا بمقاطع منه أعلاه، بل كذلك على انبهار كثر من الرسامين والسينمائيين والكتاب الفرنسيين خصوصاً من الذين كان لديهم في نهاية الأمر ما يكفي من الوقت، لتأمل القارة الأميركية ولا سيما نيويورك وكاليفورنيا علامتاها الأكثر جمالاً وأريحية، حين استقبلتهم يوم هروبهم من النازية، إستقبالا يمكننا أن نتساءل اليوم أين تبخر وما الذي أحدث كل هذا التبدّل في أميركا الى درجة انها ضمت ذراعيها على بعضهما لافظة من يلتجئ اليها هرباً من الظلم والقمع هي التي كانت زمن ليجيه، ملجأ لكل هارب، وعرفت كيف تستفيد من اللاجئين لتبني المدينة العالم التي كانت حلم البشرية دائماً.
مشاركة :