لم يحقّق الرسام الفرنسي فرنان ليجيه سوى فيلم واحد في حياته. لكنه لم يكن فيلماً كبقية الأفلام. كان شريطاً في أكثر قليلاً من ربع ساعة، عبّر فيه الفنان عن ذلك الاستقبال الحافل الذي به استقبل الفنانون السورياليون بخاصة - وليجيه كان منهم في شكل أو آخر - ثم التكعيبيون - كذلك كان منهم في شكل أو آخر -، ذلك الفن الجديد الذي طرأ على القرن العشرين وأربكهم أول الأمر: فن السينما. مع هذا لئن انتمى هذا الفيلم الى الفن السينمائي فإن بوناً شاسعاً يفصل بينه وبين ما كان معهوداً في السينما حينها. وللفيلم عنوانان: «الباليه الميكانيكي» و»شارلو يقدّم الباليه الميكانيكي». ولكن أياً من العنوانين لا ينطبق على الفيلم. ففي البداية يخيّل إلينا أن الفيلم عبارة عن تصوير سينمائي لعمل موسيقي كان معروفاً في ذلك الحين هو بالتحديد «الباليه الميكانيكي» للموسيقي الأميركي جورج آنتاي. لكنه لم يكن كذلك، على رغم رغبة أصحاب الفيلم المعلنة. ثم بعد ذلك يوحي العنوان الثاني بوجود «شارلو» (شارلي شابلن) في الفيلم. لكنه غير موجود. شارلو هنا شخص آخر تماماً: إنه أندريه شارلو منتج الفيلم حتى ولو اعتمر قبعة شبيهة بقبعة المهرج الشهير وارتدى زيّاً يماثل زيّه. إذاً كل ما في الفيلم كاذب وخادع. لكنه طبعاً ذلك الكذب الساخر الذي كان يروق للسورياليين، وكان من شأنه أن يثير إعجاب جورج لويس بورخيس! > غير أن أهل ذلك الزمان (أواسط عشرينات القرن الفائت) لم يشاركوا السورياليين إعجابهم ولا هم تقاسموه مع بورخيس. فهم ما كان من شأنهم أن يفهموا شيئاً من تلك الحركة الدائمة لأشخاص وأشياء لا يعرف أحد ماذا تفعل في تلك الأماكن التي وُضعت فيها لمجرد أن تصورها الكاميرا. ولئن كان «الباليه الميكانيكي» يعتبر اليوم عملاً كبيراً من مجال «السينما التجريبية»، فإن معاصريه احتاروا معه كثيراً. فهم لم يروا أمامهم على الشاشة سوى تقاطعات من صور تتوالى على إيقاع موسيقى صاخبة وعنيفة - كانت غير موسيقى آنتاي -، تقطعها بين الحين والآخر صورة امرأة جالسة على أرجوحة هادئة في حديقة ساكنة، بوجهها الخالي من أيّ تعبير. أما ما عدا هذا، فأسطوانات وأنابيب وأجزاء من محركات مفككة وصمامات وطوربينات متراكمة. وحين تهدأ حركة هذا كله، تبدأ حركة متعاقبة لأدوات مطبخ من طناجر وأوان و مقالٍ وصحون صُفّت بأشكال دائرية ومستطيلة وخطوط مستقيمة لتمرّ عليها سيارات وعربات. لماذا؟ أين؟ كيف؟ الجواب مستحيل، حتى ولو اننا سنفاجأ بتقاطع هنا مع لقطات لامرأة سمينة تصعد درجاً ثم تصعده وتصعده من جديد من دون هوادة، من دون ان نفهم علاقتها بالمطبخ أو بالشخصيات الأخرى الآتية الذاهبة من لا مكان وإلى لامكان، بما فيها شخصية جيء بها من عالم الشرائط المصوّرة. > إنه عالم طريف وميكانيكي حافل بالعزلة - عزلة الإنسان المعاصر؟ -، وعزلة البشر عموماً والأشياء، ذاك الذي «صوّره» ليجيه في هذا الفيلم الذي جاء في نهاية الأمر، عبارة عن صورة لعالم آليّ يكرر نفسه على إيقاع لا تقطعه سوى لقطات امرأة الأرجوحة. ومع هذا، ثمة معجزة صغيرة ها هنا: حيث لا يمكن لمن يشاهد فيلم «الباليه الميكانيكي» إلا أن يدرك من فوره أنه أمام عمل لفرنان ليجيه. ذلك أنه عمل يشبه تماماً لوحات هذا الفنان الذي لا يشبه عمله عمل أي فنان آخر على رغم تعدّد وتنوّع المدارس الفنية في القرن العشرين. ولئن كان معروفاً أن ما من فنان تشكيلي كان بإمكانه ان يفرض حضوره الا عبر تيار أو مدرسة تجعله جزءاً من جماعة، فإن ليجيه عرف كيف يكون دائماً على حدة، حتى وإن كان الكثيرون قد ماهوا بينه وبين الحركة التكعيبية حيناً، وبين الحركة السوريالية وحركة «الأنقياء» في حين آخر. لكن ليجيه في الحقيقة لم يكن من هؤلاء ولا من اولئك. > كان صاحب فن خاص لم يقلد احداً من قبله، ولم يقلده من بعده أي فنان جاد. والحال اننا اذا شئنا ان نطلق على فن ليجيه اسماً، فإن الاسم الذي يناسبه اكثر من غيره هو اسم «الفنان الأنبوبي»، وذلك لأن معظم لوحاته كانت تحول كل شيء بما في ذلك الكائنات البشرية الى اشكال تشبه الأنابيب. ومن الواضح ان هذا الاتجاه ولد لدى ليجيه نتيجة اهتمامه، من ناحية بالهندسة، ومن ناحية ثانية بالآلة ومداخن المصانع وانسيابية حركة الأنابيب التي كانت تشكل في زمنه والأزمان التي قبله، رمزاً واضحاً للعصر الصناعي المظفر. > ومع هذا فإن هذا الفنان الذي يكاد يكون منسياً بعض الشيء في ايامنا هذه، والذي ولد في 1881، تأثر أول ما تأثر بالفنان الذي يكاد اسلوبه ان يكون نقيض اسلوب ليجيه كلياً، ونعني به سيزان الذي كان اكتشاف ليجيه لأعماله في معرض الخريف في العام 1907 محطة أساسية في حياته، بعد أن كان قد رُفض في مدرسة الفنون الجميلة، ليقبل العام 1903 في مدرسة فنون الديكور. > منذ بداية ممارسته فن الرسم، وعلى رغم تأثره بسيزان، اهتم ليجيه كثيراً بالأشكال والأحجام والإيقاعات، ضمن اطار اسلوب جمع في وقت واحد بين الحداثة (في الشكل) والنزعة الشعبية (في الموضوع) ومن هنا جرى اعتباره على الدوام رسام الحضارة الصناعية المدينية، كما سماه البعض «شاعر العصر الميكانيكي» (ما يربطنا مرة أخرى بالباليه الذي نتحدث عنه هنا). وكان ليجيه قد عثر على أسلوبه «الأنبوبي» الذي مكنه من ان يفرض شخصيته على كل اللوحات التي رسمها، سواء منها تلك التي نزع فيها في اتجاه «سوريالي»، فكانت تحمل اشكالاً مجردة وعناصر ميكانيكية متجاورة مع بعضها بعضاً في لعبة لونية أخاذة، او تلك التي صوّر فيها مشاهد من الحياة اليومية: من نساء يقرأن في صالة منزل، الى سائقي الدراجات، الرياضيين، مروراً بحياة أوقات الفراغ، والسابحين قرب البحيرات والأنهار. والحال أن هذا النوع الأخير من اللوحات الذي رسمه فرنان ليجيه بكثرة هو الذي جعل لفنه طابعاً شعبياً لا مراء فيه، حيث أن الملصقات المنقولة عن لوحاته تملأ العديد من البيوت الفرنسية، ما يجعله الفنان الشعبي رقم واحد في فرنسا القرن العشرين. > في 1914، وبعد لقاء مع بيكاسو وبراك كاد يدفعه في اتجاه التكعيبية، جُنّد ليجيه في القوات الفرنسية لكنه عاد وسُرّح في 1916 بعد ان اصيب. وبعد الحرب كانت فترة ازدهاره التي حقق فيها بعض أفضل لوحاته مثل «المراوح» و»لاعبو السيرك» و»الإسطوانات». وهو في مرحلة تالية اهتم بصنع الديكورات المسرحية ولا سيما ديكورات الباليه السويدي، فجاءت ديكوراته على شاكلة لوحاته: انبوبية شعبية وميكانيكية في آن معاً. ولقد بلغت به ميكانيكيته ان اكتشف فن السينما وأولع به، وحقق بالتالي فيلمه «الباليه الميكانيكي» (1924) الذي كان اول فيلم في تاريخ السينما يُحقّق من دون سيناريو. خلال الحرب العالمية الثانية عاش فرنان ليجيه في الولايات المتحدة حيث درّس في العديد من الجامعات، وهو منذ عودته الى فرنسا في 1945 راحت رسومه تبدي اهتماماً سياسياً أكبر بالطبقة العاملة، فأضحى معظم لوحاته شعبياً يعبر عن الحياة اليومية لتلك الطبقة. وعند أواخر سنوات الأربعينات انفتح على رسوم الزجاج فحقق عملاً كبيراً لجامعة كاراكاس كما اشتغل الزجاج لكنائس فرنسية عديدة. > في لوحاته، سواء كانت تجريدية ام شعبية، وفي زجاجياته كما في الديكورات التي صنعها، كان فرنان ليجيه يجد متعة في توضيح الحدود بين الأجساد والأشياء المختلفة، الى درجة انه غالباً ما كان يستخدم الخطوط السوداء السميكة والبارزة لرسم تلك الحدود، وهو كان يقول عن هذا ان الحياة اليومية تبدو له الآن من الوضوح والفرز ما يجعل من الضروري للرسم ان يبرز هذه السمة. ولعل هذا الوضوح الذي قال عنه في محاضرة ألقاها في 1923 انه «بات يشكل اساس الفن والحياة معاً»، هو الذي اعطاه شعبيته التي جعلت رحيله عام 1955 يعتبر خسارة حقيقية للفن الشعبي في فرنسا.
مشاركة :