أشعر بسعادة غامرة لعدم تعاملي مع موظفين حكوميين منذ فترة طويلة بفضل التقنية، والتي ربما أسهمت بخفض الإصابات بأمراض التعامل مع الموظف الحكومي عضويةً كانت أو نفسية، لكن فضل التقنية لا ينحصر على الجمهور الخارجي، بل إنه أعاد ترتيب علاقة الرئيس والمرؤوس في الجهاز الحكومي.تفقد الإدارة المركزية سلطتها ومبرر وجودها كلما فقدت سلطة المعرفة، ولا شيء يعطي الأجهزة المركزية في وزارات ضخمة مثل وزارة الصحة ووزارة التعليم قيمتها المركزية، إذا فقدت سلطة المعرفة والتي تآكلت بسبب تنامي وانتشار التقنية ومستخدميها لصالح الإدارة اللا مركزية، لكن التقنية نفسها أعطت تلك الأجهزة المركزية فرصة أخرى لاستعادة دورها وسلطتها من خلال وضع مؤشرات الأداء ومن خلال قياس تحقيق الأهداف.المدهش أن هذه التطورات التقنية المتلاحقة كشفت عن خلل في صياغة أهداف الوزارات ولغتها الفضفاضة، من حيث عموميتها وضبابيتها والأهم عدم قابليتها للقياس وتحويلها إلى أرقام.الوزارات التي لا تتحدث لغة الأرقام أو تتحدثها دون أن تأخذ رضا المستفيدين من خلال مؤشرات قياس الأداء، هي وزارة بحاجة لمراجعة أهدافها والهدف من وجودها وبالأصح هي وزارات تنتمي لثقافة «تمام يا فندم» حيث الهدر والفساد والمحسوبية وسوء الإدارة.لقد ولى زمن الأهداف الضبابية المطاطة العامة، وجاء زمن الأهداف التي تنبني على المؤشرات المؤثرة القابلة للقياس. فالأهداف التي لا تترجمها الأرقام يمكن أن تنفع أن تكون شعرا وأدبا وموسيقى، لكنها ليست أهدافا تنموية ولا يمكن أن يعتد بها أو يعول عليها في المحصلة النهائية لأهداف التنمية وأهداف الرؤية 2030.كلما كثرت مؤشرات القياس في وزارة ما أو شركة ما كان ذلك مؤشرا على أنها فهمت دورها المطلوب وسلكت الطريق الصحيح في الوصول إلى مكامن القصور ومكامن النجاح، وكلما كانت هذه الوزارة أو الشركة مرنة بإضافة مؤشرات جديدة كان ذلك مؤشرا على أن إدارتها تعمل بكفاءة.دعيت مطلع الأسبوع الماضي لحضور المؤتمر العربي السابع عشر للمنظمة العربية للتنمية الإدارية في القاهرة وكان عنوانه حوكمة الرعاية الصحية بحضور 15 دولة عربية وعدد من المنظمات والشخصيات المهتمة. كان هذا المؤتمر في تقديري يعكس وعيا جديدا يقترب كثيرا من تشخيص المشكلات التي تعاني منها النظم الإدارية الصحية وغير الصحية العربية. انبثق عن المؤتمر توصيات في غاية الأهمية، منها تبني سياسات الحوكمة في النظم الصحية العربية، وتشبيك المؤسسات الصحية ذات التخصصات المشتركة، بالإضافة إلى الدعوة لتأسيس مركز عربي لحوكمة الخدمات الصحية وهذا لو تم تنفيذه سيشكل مقبرة لثقافة «تمام يا فندم» السائدة في الجهاز الحكومية العربي وسيكون منعطفا مهما من حيث رفع مستوى الخدمات الصحية في الوطن العربي وتفعيل مستوى العمل العربي المشترك.فهناك الكثير من نقاط القوة في القطاعات الصحية العربية تشكل مجتمعةً تكاملاً غير مسبوق يلامس كافة شرائح وفئات المجتمعات العربية لو تم وقف الهدر عن طريق استفادة بعضها من بعض، شريطة أن يتولى هذا المركز جهة مستقلة، وبأن يشتمل هذا المركز على مؤشرات تتعلق بالغذاء والسلوك الغذائي والصحة النفسية والصحة المدرسية والطب البديل وطب الأعشاب وغير ذلك مما تسبب في كثير من الأحيان بفوضى عارمة وتمييع سافر لمفهوم الطب ومرجعيات الصحة.هنا لا بد لي من أن أتوقف عند المستوى المتقدم الذي تحققه وزارة الصحة السعودية على صعيد مؤشرات قياس الأداء في القطاع الصحي الحكومي يرشدها في ذلك أهداف الرؤية وبرنامج التحول الوطني، حيث تجاوز عدد مؤشرات القياس أكثر من 370 مؤشرا يخضع لها أكثر من 550 مؤسسة صحية حكومية، بعض تلك المؤشرات تستخلص تقاريرها بشكل أسبوعي وبعضها بشكل شهري وبعضها أكثر. المطمئن على نجاح هذه التجربة هو أنها مفتوحة على إضافة المزيد من المؤشرات والتي يتم مراجعتها ودراستها من قبل لجنة مركزية تقوم عليها قيادات من الوزارة.ملاحظتي على هذه التجربة الرائدة والرائعة هو عدم إخضاعها لمؤسسات القطاع الخاص الصحية، ففي القطاع الخاص الصحي ما يستحق الحذو حذوه والاقتداء به. وملاحظتي الثانية هي عدم اشتمال اللجنة المركزية الخاصة المشرفة على مؤشرات وزارة الصحة على عناصر وكوادر وخبرات من خارج وزارة الصحة، لأن مؤشرات الصحة هي مؤشرات تنموية، ولتلك المؤشرات قراءات أخرى غير صحية تصب في مجالات تنموية شتى بالإضافة للجانب الصحي.ختاما أود أن تسهم وزارة الصحة بتجربتها في مجال مؤشرات قياس الأداء مع المنظمة العربية للعلوم الإدارية ووزارات الصحة العربية المبرزة في هذا المجال بتأسيس المركز العربي المقترح في مؤتمر حوكمة الخدمات الصحية، شريطة أن يكون هذا المركز مستقلا وقابلا للاستدامة، لأن مؤشرات قياس الأداء والتوسع بها هو طوق النجاة للعمل الحكومي في وزارات الصحة العربية كما هو الحال لبقية الوزارات الحكومية الأخرى، وهو السبيل الوحيد للقضاء على ثقافة «تمام يا فندم» التي عانت ولا تزال تعاني منها أغلب الوزارات والشركات في بلداننا العربية.* كاتب سعوديDwaihi@agfund.org
مشاركة :