كان مشهد الرئيس الفرنسي «مانويل ماكرون» في خطابه الموجه لآلاف المتظاهرين المحتجين على سياساته الاقتصادية مختلفاً عن الصورة التقليدية التي ظهر فيها منذ اقتحامه المشهد السياسي قبل سنتين، غاب وجه الشاب اللامع الواثق من نفسه، وظهر في موقف الضعف والحيرة أمام ظاهرة احتجاجية من نمط غير مسبوق في البلاد التي صدرت نموذج الثورة إلى أوروبا الحديثة ومنها إلى العالم كله. المفارقة البادية للعيان أن المعادلة التي سمحت لماكرون بالوصول للسلطة هي نفسها التي أدت اليوم إلى إضعافه، وهي معادلة تراجع الأحزاب السياسية والمنظمات النقابية أي مختلف الوسائط المنظمة التي أنتجتها الديمقراطية التمثيلية منذ قرنين. لا ينتمي المحتجون الذين اجتاحوا الشوارع الباريسية إلى أي من أحزاب «اليمين» و«اليسار» ولا إلى أي من النقابات الكبرى، بل لا ينتمون إلى أي تيار فكري أو مجتمعي أو إيديولوجي على غرار ما حدث خلال انتفاضة 1968 الشهيرة، ولا يمكن تصنيفهم في خانة النزعات الشعبوية الصاعدة في أوروبا وأميركا، فلا أثر لموضوعات الهجرة والمطالب القومية والثقافية في خطاب هذه الجموع المنتفضة الهائجة. بيد أن مختلف هذه الظواهر التي عرفتها المجتمعات الغربية في السنوات الأخيرة ترجع للخلفية ذاتها التي هي عجز نموذج الديمقراطية التمثيلية عن حسم المعضلة السياسية الاجتماعية في البلدان الليبرالية التي كانت تختص بالقدرة على تأمين السلم الأهلي من خلال الشرعية الانتخابية الناجعة. ما نلاحظه اليوم في مختلف الديمقراطيات الغربية هو ظواهر ثلاث شديدة الارتباط هي: انهيار الأحزاب التقليدية الكبرى التي أطرت الحياة السياسية، والعزوف الواسع عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، وتشتت وضعف القاعدة التمثيلية لأنظمة الحكم التي تتشكل في الغالب من تحالفات هشة مؤقتة لا تترك هامشاً قوياً للحكومات التنفيذية في ممارسة سلطاتها. ما يبنه عالم الاجتماع الفرنسي «بيار روزنفالون» هو أن التحدي الذي يواجه الديمقراطيات الراهنة هو تآكل الوسائط المؤسسية المنظمة التي كانت تضمن للديمقراطية استقرارها، بحيث أن الانتفاضة الحالية لا تتعلق بطبقات اجتماعية بل بمواقع اجتماعية سيالة ومتنوعة، لا بفئات متشكلة لها هوية ثابتة ومصالح مشتركة، بل مجموعات تتقاسم الأهواء والمشاعر، لا بديمقراطية التمثيل الإيجابي بل بديمقراطية التمرد السلبي التي تقوم على الحشود الغاضبة لا الجموع المنظمة. في الأنماط الاحتجاجية الجديدة يحتل الميدان العام بدلالته المادية المباشرة موقع المجال العمومي في دلالته القانونية الصورية، كما كان الشأن في الحركات الاحتجاجية التي عرفتها كبريات المدن الغربية في السنوات الماضية: «بويرتا ديل سول» في مدريد وساحة «زيكوتي» في نيويورك وساحة الجمهورية في باريس. لأول مرة في التاريخ السياسي الحديث أصبح للرأي العام مظهر مادي ملموس، ففي ديمقراطية التمثيل للرأي العام ناطقون باسمه من صحافة وإعلام وزعامات سياسية، أما اليوم فقد أصبح الكلام المباشر الذي تبثه شبكات التواصل الاجتماعي شكلاً عفوياً فعالاً للديمقراطية المباشرة، مع ما ينجر عن هذا التحول من مخاطر الإشاعة الكاذبة والتأجيج العاطفي والمعلومة الزائفة، أي ضياع الفاعلية البرهانية في الخطاب السياسي. الأدهى من ذلك كله هو انحسار مفهوم الشرعية الانتخابية نفسه، فالجموع المحتجة لم تعد تجد نفسها في الحكومات المنتخبة، ومن هنا التركيز على مفاهيم جديدة للشرعية من الصعب صياغتها في نظم مؤسسية عملية مثل الشرعية الخلقية والسلوكية (احترام الوعود الانتخابية وتخليق الحياة السياسية..). من المعروف أن الديمقراطية التمثيلية تقوم على اختزال الإرادة العامة المشتركة في الأغلبية الانتخابية الظرفية المحدودة، وهي مصادرة انتقدها الفكر السياسي منذ بدايات الحداثة الأوروبية، بيد أن الجديد في الأمر أن هذه المصادرة فقدت جانباً كبيراً من نجاعتها وفاعليتها. هذه المصادرة قامت على فكرة الشعب كما بلورها الفيلسوف الإنجليزي «توماس هوبز» من حيث هي تحويل الجمهور المشتت إلى جسم سياسي منظم بإرادة واحدة (الدولة السيادية المركزية)، والامتحان اليوم هو استكشاف ديمقراطية الجمهور التي تحدث عنها «سبينوزا» في تصوره لديمقراطية حركية حية لجموع متنوعة من فرديات مستقلة نشطة. ديمقراطية الجمهور هي الأفق الذي يفكر فيه عدد من الفلاسفة المعاصرين في تصورهم لأنماط الفعل السياسي في مرحلة ما بعد الدولة الوطنية المركزية، والإشكال كله يتمثل في أن الديمقراطية الثورية المباشرة الطوبائية ليست خياراً عملياً حقيقياً في حين أن الديمقراطية التمثيلية أصبحت عاجزة وهشة.
مشاركة :