في بريطانيا مجموعات «يسارية» تناهض التقشّف وتقلّد «السترات الصفراء»، وفيها أيضاً مجموعات «يمينية» تكره الغريب وتنسب نفسها إلى «السترات». في العراق وتايوان وإسرائيل لبس شبان وشابات هذه «السترات»، وحملوا مطالب اقتصادية تنتمي تقليدياً إلى «اليسار». لكنّ بعض قادة «اليمين» الألماني المتطرّف رفعوا شعارات مناوئة للمهاجرين، وأعلنوا حماستهم لـ«السترات». شيء مماثل حصل في كندا وأستراليا. وبعد طول تردّد، انضمّ شيوعيون فرنسيون ونقابيون في «سي جي تي» إلى احتجاجات «السترات»، بينما كان تلفزيون «روسيا 24» الرسمي يزعم، كاذباً، أنّ المتظاهرين الفرنسيين غنّوا الأغنية الروسية الشعبية «كالينكا». دونالد ترمب، في تغريدة من تغريداته، زعم أنّ المحتجّين في باريس هتفوا «نريد ترمب». كذبة أخرى.ماذا نستخلص من هذه الشورباء؟تلك الحالات وسواها لا تقول فقط إنّ «السترات» تقع خارج «اليمين» و«اليسار»، وهذا من علامات زمننا الشعبوي والهوياتي الراهن. إنّها تقع أيضاً خارج السياسة. هذه السمة، الشعبويّة بدورها، حملتهم على رفض التحوّل إلى حزب وعلى الامتناع عن اختيار قائد أو هيئات قياديّة. هذا فضلاً عن كراهية الإعلام التقليدي، صحافة وتلفزيوناً، والاستعاضة عنه كلياً بوسائل التواصل.ما لا شكّ فيه أنّ التذمر الاقتصادي الذي عبّرت عنه الحركة يتعدى المطلب الفوري والمباشر بتخفيض سعر الوقود. يكفي القول إنّ فرنسا تغرق للعام الخامس والثلاثين في ركودها، وهناك 2.5 مليون عاطل عن العمل. سياسات إيمانويل ماكرون الاقتصاديّة، التي سبقت تنازلاته الأخيرة، صبّت زيتاً كثيراً على النار: في 2017 ألغى «ضريبة الثروة» التي لم تكن تطال إلا 0.9 في المائة من السكّان، وخفّض الضرائب على الشركات الأغنى والأفراد الأغنى، كما رفض كلّ زيادة على الحدّ الأدنى للأجور، وجمّد عائدات التقاعد. الرئيس السابق فرنسوا هولاند سمّاه «رئيس الأغنياء جدّاً».لكنّ جمهور «السترات»، وكحال جمهور «بريكست» البريطانيّ، يبحث عن حلّه الاقتصادي في اللاسياسة: وفقاً لدراسة أجراها معهد «إيلاب» لقياس الرأي العامّ، سبق لأكثر من ثلث ذاك الجمهور أن صوّت، في انتخابات 2017 الرئاسيّة، لمارين لوبن، وأكثر من ربعه لجان لوك ميلونشون. قليلون جداً صوّتوا لماكرون، وكثيرون لم يصوّتوا أصلاً. إذن هم أقرب إلى البيئة التي ترفض الديمقراطيّة التمثيليّة، إمّا بالمقاطعة والاحتجاب، أو باختيار أقصى اليمين وأقصى اليسار.أزمة السياسة الديمقراطية وأزمة الثقة بها حاضرتان جدّاً في وعي هذا الجمهور وسلوكه. انهيار المؤسّسات السياسية والأحزاب، التي طويلاً ما توسّطت العلاقة بين الشعب والحكومة، حاضر بقوّة. والحال أنّ العقود الثلاثة الماضية كانت قد سجّلت ظاهرة استنكاف متنامٍ عن تلك الأحزاب وعن ممارسة التصويت، في فرنسا وفي سواها من الديمقراطيات.هامشيّة التكوين الاجتماعي لـ«السترات» تكمّل الهامشية السياسية: سكّان بلدات ومناطق ريفية تفرغ ببطء من سكّانها، وقطاعات من الطبقة العاملة القديمة، وشرائح دنيا من الطبقة الوسطى، ولكنْ بالأخصّ أصحاب دكاكين وحِرَفيّون ومتقاعدون، وبالطبع سائقو السيّارات الذين يُعدّ سعر الوقود لديهم مسألة حياة وموت. اللافت أيضاً، في بلد تعدّدي كفرنسا، ضعف الحضور الأسود والمسلم في «السترات». الحوادث اللاسامية تضاعف القلق حيال الغلبة الكاسحة للّون الأبرشي الواحد.لكنْ هل تقدّمت هذه البيئة المسحوقة، فضلاً عن المطالب الاقتصاديّة المحقّة، باقتراحات ممكنة لتوسيع قاعدة الديمقراطية التمثيلية ومساهمة المواطنين فيها؟ لا. ما تقدّمت به هو «استفتاءات مبادرات المواطنين»، أي اعتماد تعديلات دستوريّة تتيح استطلاع الآراء عبر استفتاءات حول اقتراح قوانين معينة أو تعطيلها، وحول إلغاء تفويض السياسيين وعزل المسؤولين... «المبادرة المباشرة» المرغوبة تحضّ على كتابة العرائض وإرسالها للحكومة، في أي وقت.بلغة أخرى، المطلوب مغادرة الديمقراطية التمثيلية، والنكوص إلى الديمقراطية المباشرة التي تُعتبر أثينا القديمة نموذجها، خصوصاً عهد بيركليس في القرن الخامس ق.م: المواطنون كانوا يصوّتون في الساحة العامّة (الآغورا) على كلّ قانون وكلّ ما يتّصل بالسياسات العامّة. في العصر الحديث، ومع تزايد أعداد السكّان في المدن، وفي البلدان عموماً، بات هذا الاجتماع في الساحة مستحيلاً.«السترات»، لدعم حجّتها، ذكّرت بسويسرا بوصفها ديمقراطيّة مباشرة حديثة، لكنْ في سويسرا اليوم لا يصوّت المواطنون إلاّ على 5 في المائة من القوانين. إذن، الحلّ المقترح يشبه البلدات الصغرى والأفق الصغير. إنّه خيار شعبوي وماضوي ورومنطيقيّ. إنه «الحل» الذي يفتح الباب لمشكلة أكبر، تماماً كما حصل مع «بريكست».لقد تراجعت شعبيّة «السترات»، وقد تتراجع أكثر، لكنّ أزمة الديمقراطيّة ستعيش معنا طويلاً. الأزمة تزداد إلحاحاً وخطورة حين تكون فرنسا البلدَ المعني بالأمر، لأنّها، هي وألمانيا، آخر حصون الديمقراطية الليبرالية. وإذا فسد الملح، تبعاً للموقف الاقتصادي الأناني للحاكم، أو الموقف الثقافي الرجعي للمحكوم، فلن يكون هناك ما يُمَلّح به.
مشاركة :