في الجزء الأول من هذا المقال، الأسبوع الماضي، تم تناول السياسة النفطية الجديدة التي تتبعها المملكة في إنتاج النفط، التي تتمحور حول الاهتمام بجانب الطلب في سوق النفط العالمية، متخلية عن دورها التقليدي كمنتج مرجح للنفط هدفه الأساس الدفاع عن السعر. ثم تساءلنا، نهاية المقال عن: التبعات السياسية والاقتصادية التي محتمل أن تتفاعل جراء اتباع هذه السياسة الجديدة، محليا وخارجيا. بداية: علينا أن نؤكد، أنه ليس هناك فرق في السلوك، بقدر ما هو فرق في المضمون والإطار القيمي. فسواء كانت السياسة النفطية للمملكة تتبع تكتيكا يدافع عن السعر، ومن ثم يهتم بالعرض، أو كانت هذه السياسة النفطية للمملكة تتبع توجها يدافع عن الحصة السوقية لنفط المملكة، ومن ثم الاهتمام بجانب الطلب. بعبارة أخرى: قيام المملكة بدور المنتج المرن استجابة لقوى السوق، بوصفها منتجا مرجحا أو فعالا يتمتع بكفاءة إنتاجية منافسة، هو سلوك لا يبدو عليه أنه بعيد عن احترام قوى السوق. لكن الاختلاف هنا في جهة ميل السياسة النفطية للمملكة وفقا لمعيار مصلحتها الوطنية أخذا في عين الاعتبار إمكاناتها الإنتاجية المنافسة، هل هو - في لحظة تاريخية معينة - في الدفاع عن السعر أم الدفاع عن حصتها في السوق العالمية للنفط. صانع السياسة النفطية للمملكة، منذ زمن بعيد، فطن لحقيقة إمكانات المملكة الإنتاجية الضخمة، مع ضخامة قدراتها الاحتياطية المتنامية، بالإضافة إلى تكلفة سعر الإنتاج المنخفضة، نسبيا. المملكة منذ بداية سبعينيات القرن الماضي رأت أن الظروف الإقليمية والدولية أضحت مواتية لتصحيح أوضاع سعرية للنفط كانت مجحفة للدول المنتجة. كما أن الرواج الذي شهده اقتصاديات الدول الصناعية، من بعد أزمة السويس كان سببه - في المقام الأول - السعر المنخفض للنفط، الذي جعل شركات النفط العالمية ومعها حكومات الدول الصناعية الكبرى، تستمرئ استغلال موارد الدول المنتجة للنفط، دون أي وازع سياسي أو أخلاقي من مسؤولية تجاه مجتمعات الدول المنتجة، بل ولا حتى أدنى اهتمام باستقرار العالم وأمنه. أخذ العالم، بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣، يتابع مؤشرات سعر النفط لتحليل حالة الاقتصاد العالمي، بترموتر سلوك الدول المنتجة بمؤشر سعر النفط. إلى أن وصل جانب العرض في سوق النفط إلى درجة التشبع، وكاد يفقد النفط مكانته المنافسة في سوق الطاقة العالمية، فارتفعت فاتورة الطاقة لأرقام فلكية، حتى كادت أن تصيب الاقتصاد العالمي بالشلل بالدخول في فترة ركود من بداية القرن الجديد، حتى انفجرت الفقاعة المالية ٢٠٠٨. لكن سرعان ما عاد سعر النفط للارتفاع ليئن اقتصاد العالم، مرة أخرى، تحت وطأة أسعار الطاقة المرتفعة، وأصبح التفكير تجاه المسار الآخر لإعادة التوازن لسوق النفط العالمية، لكن هذه المرة ليس عن طريق التركيز على جانب العرض، بل التحول للاهتمام بجانب الطلب. ثم علينا أن نتذكر أن التحول من سياسة الدفاع عن السعر إلى الدفاع عن الحصة السوقية، لم يكن وليد الساعة، عند صانع السياسة النفطية السعودية. لقد أخذ من المملكة جهدا كبيرا واستثمارات طائلة لتصل لمكانة المنتج الفعال الكفؤ والمنافس بقوة في سوق النفط العالمية. أنفقت استثمارات ضخمة لتنمية حقولنا النفطية.. وتجديد تكنولوجية التنقيب والإنتاج.. وتنمية حقول قائمة واكتشاف حقول جديدة، بنوعية نفط متميزة، ربما بصورة لم تنافس المملكة في هذا دول أخرى منتجة، لا إقليميا ولا دوليا. بالإضافة إلى الاستفادة القصوى من مرحلة سنوات ازدهار أسعار النفط لتراكم عائدات ضخمة للاستفادة منها في سنوات أو فترات انخفاض السعر القادمة. بالطبع لم يرق قيام المملكة بدور المنتج الكفؤ الفعال لمنافسين إقليميين، بل ولا حتى لأصدقاء وحلفاء تقليديين على المستوى الدولي. لنترك معركة إنتاج النفط الصخري، فهذه معركة يخوضها عنا بالوكالة شركات النفط العالمية العملاقة، خاصة الأمريكية منها، التي تضررت من تطور تكنولوجيا استخراج النفط من الصخور والتربة النفطية. تبقى دول إقليمية ودولية لا تتوافق مصالحها مع مصالحنا الوطنية وأمننا، وهذه المجموعة الثانية من الدول عليها أن تعي لحقيقة طاقة المملكة الإنتاجية الكفؤ، قبل أن تتهور للمساس بمصالحنا وأمننا، وتقدر بموضوعية وضعها التنافسي في سوق النفط العالمية. المملكة، كما قال وزير النفط مرة، قادرة على تلبية أي استجابة سريعة في الطلب، يمكن أن تتطور، في أي وقت. وتبقى دول منتجة صديقة لنا في أوبك، وهذه المجموعة من الدول يمكن التفاهم معها لتعي حكمة أن أسعار النفط لن تبقى متدنية، لوقت طويل، وأنه من مصلحتها التعامل بحكمة مع فترة قادمة من النفط المنخفض السعر، إلى أن يستعيد سوق النفط عافيته، ويعود اقتصاد العالم، من جديد لمرحلة الانتعاش والتعافي.
مشاركة :