النزول الاستثنائي لعبدالعزيز بلخادم إلى المبنى المركزي للحزب بضاحية حيدرة في العاصمة، مطلع شهر ديسمبر الجاري، وسط هالة من الأنصار والأضواء الإعلامية، شكل صدمة ومفاجأة من العيار الثقيل للكثير من متتبعي الشأن الحزبي والسياسي في الجزائر، وهو الذي كان في عداد المعتكفين في خيم العائلة والقبيلة، ببادية آفلو في محافظة الأغواط بجنوب البلاد. ويسود في الجزائر اعتقاد راسخ بين كبار مسؤولي الدولة ورموزها، بأنك يمكن أن تتخلى عند تسريحك من منصبك عن كل شيء، إلا جهاز الهاتف فيجب أن يبقى شغالا وفي حالة جيدة، تحسبا لأي رنين يعيدك إلى منصبك ومجدك، ولو أن العودة ليست متاحة للجميع، لأن النظام دأب على إهمال رموزه، وحتى الانتقام منهم، وكثيرا منهم مات في عزلته. يبدو أن بلخادم احترم تلك القاعدة جيدا، ولم ييأس من مساعي المحو التي تعرض لها من طرف مناوئيه في الحزب الحاكم، وفي داخل دوائر السلطة، لقناعة لديه بأن الأفق سيسد أمامهم، وسيضطرون إلى إعادته من الأبواب الواسعة، بعدما رموه من نافذة ضيقة. حالة استثنائية رغم جزم الكواليس والأحاديث الجانبية في وقت سابق، بعودة مرتقبة لبلخادم، الأمين العام السابق لحزب جبهة التحرير الوطني الحاكم، ورئيس الحكومة ووزير الدولة، إلى الواجهة، إلا أنها ظلت توصف بـ“أضغاث أحلام”، قياسا بالخروج المهين الذي طبق على الرجل العام 2014. وإذ كانت تقاليد العودة إلى مناصب المسؤولية في المؤسسات الرسمية بالجزائر، قد أتيحت للبعض كما حدث مع الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة، الذي غادر البلاد العام 1979 مدحورا ومطرودا ومطلوبا للقضاء، بعد رحيل رفيقه الرئيس هواري بومدين، فقد عاد إلى السلطة من أبوابها الواسعة في 1999، وإلى أعلى مما كان عليه، فإن العودة إلى هرم الحزب الحاكم، لم تحدث إلا مع بلخادم فقط. ومنذ اضطلاع حزب جبهة التحرير الوطني، بقيادة الواجهة السياسية للسلطة في حقبة الأحادية، ومنذ بداية الانفتاح والتعددية الى الآن، لم يحدث أن تمت عودة أي أمين عام ابتعد أو أُبعد، إلا مع بلخادم. وقد تداولت على قيادة الحزب العديد من الشخصيات الوزانة، إلا أنها انتهت إلى عزلة خانقة، كما حدث مع محمد الصالح يحياوي، بوعلام بن حمودة، عبدالحميد مهري، وحتى علي بن فليس الذي دفع للانسحاب رسميا وسياسيا، وهو تقليد كرسته الممارسات المتراكمة داخل الحزب، الذي أكل أبناءه كما تفعله الهرة المتوحشة، ولا يتضمن أرشيفه لصور التداول أو التسليم والاستلام، كما هو شأن الأحزاب الكبرى في العالم. تصويب المسارلا يتذكر المتابعون أي انتقال سلس تم في قيادة الحزب خاصة خلال عقود التعددية السياسية، فكل التغييرات كانت عبارة عن حالات تمرد أو انقلاب أبيض، وعادة ما يغادر الأمين العام المبعد قبل الموعد، ويستلم الأمين العام الجديد مهامه بتزكية مفبركة يغيب فيها الصندوق والتعبير الحر. وتبقى حالة عبدالعزيز بلخادم، تصنع الاستثناء والجدل في الساحة السياسية، ولو ارتبطت بالتطورات الأخيرة في السلطة وفي الحزب الحاكم، لا سيما بعد الإبعاد الغامض للأمين العام السابق جمال ولد عباس، الذي برع في البهلوانية والتنكيت، فإن بقع الظل تبقى في حاجة إلى أطياف الشمس، خاصة في ظل مطاطية المهام التي أوكلت للرجل، والمصدر الذي قرر إعادته إلى هرم الحزب، بعد أربع سنوات من الإبعاد. وفي أول ظهور علني له أمام وسائل الإعلام، صرح بلخادم بأنه “كُلّف من طرف المنسق الوطني معاذ بوشارب، بمهمة تصويب مسار الحزب، وتطهيره من الدخلاء وممارسات الفساد، وإعادة الشرعية النضالية لهيئات ومؤسسات جبهة التحرير الوطني”، وهي مهام مطاطية وجبهات لا يمكن غلقها إذا فتحت، قياسا بانفلات الوضع الهيكلي والتنظيمي وتشوه العقيدة الحزبية والممارسة السياسية بالمطلق. وتملص من الرد على أسئلة هوية صاحب قرار العودة، وألبسه بالمنسق الجديد للحزب، وهو ما لم يشف غليل المتابعين، لا سيما وأنه لا يختلف اثنان في الحزب وحتى في الجزائر عموما، على أن المنسق المذكور، ليس له من الجرأة وسلطة القرار أي شيء لاستقدام هذا أو استبعاد ذلك، وأنه هو نفسه جاء لشغل منصب رئيس البرلمان والمنسق العام لحزب جبهة التحرير الوطني بقرار فوقي، يتنافى مع النصوص والتشريعات الناظمة للمؤسستين. وحين سئل عن إمكانية شغل منصب قصر المرادية، أي الرئاسة، ردد بلخادم بأنه “ساند الرئيس بوتفليقة في 1999، و2004 و2009، و2014”، وتوقف عند ذاك، ولم يشر إلى موعد انتخابات العام 2019، ولم ينف أو يؤكد طموحه لاعتلاء هرم السلطة. لتبقى عودة بلخادم إلى الواجهة، واحدة من سترات النجاة التي تفصلها السلطة، تحسبا لأي سيناريو متصل بالمستقبل السياسي للبلاد، وبمرشح السلطة للانتخابات الرئاسية المنتظرة في أبريل القادم، فالسلطة التي لم يستقر لها التصور النهائي للاستحقاق المذكور، وسقوط الخيارات الواحد تلو الآخر من يديها، استقدمت الرجل ليكون حلا احتياطيا في أي خطة بديلة.بوابة جبهة التحرير الوطني، ستكون معبرا لبلخادم، إلى مهمة مفصلية، في الحكومة أو البرلمان وحتى الرئاسة. فالرجل رغم سنوات الإبعاد ومساعي المسح والتشويه التي تعرض لها يبقى وفيا للسلطة، ولا يمكن أن يكون في غير ذلك، خاصة وأن مسحته العروبية والإسلامية تبقيه شخصية مقبولة لدى بعض الجزائريين وبعض القوى السياسية. وتظل مواقف الرجل القومية والإسلامية، ونشاطه في هيئة مناهضة التطبيع مع إسرائيل خلال مطلع الألفية، أوراقا شعبية مهمة لدى السلطة، قد تستعين بها في الوقت المناسب، بعدما احترقت أوراقها بشكل ذاتي من طرف الموالين لها وأنصارها، وقد يكون طوق نجاة لها من الغرق السياسي. لقد التزم بلخادم الصمت منذ إبعاده في أغسطس 2014، بقرار صدر حينها عن مجلس الوزراء وبثته وكالة الأنباء الرسمية، تم بموجبه تجريده ومنعه من أي منصب رسمي في الحزب أو مؤسسات الدولة، وإن لم يبرر القرار بتفاصيل أخرى، فإن تسريبات مقربة من الرئاسة تحدثت آنذاك عن اتهام الرجل بالتخطيط مع جهات أجنبية لخلافة الرئيس بوتفليقة. لكن مصادر مقربة منه، ذكرت بأن بلخادم اصطدم آنذاك، برجل السلطة الخفي مستشار الرئيس بوتفليقة، شقيقه سعيد بوتفليقة، على خلفية رفضه أخذ توجيهات وتعليمات العمل من أي جهة غير رئيس الجمهورية، وهو ما أثار غضب رجل الظل، وكلفه منصبه ومستقبله، رغم أنه كان يوصف بـ”رجل ثقة بوتفليقة”. اتهامات خطرة منذ بداية الألفية شغل بلخادم موقع الأمانة العامة للحزب، ومناصب رسمية عديدة، كرئيس حكومة، ووزير خارجية ووزير دولة لدى رئيس الجمهورية، بعد تقاعد مبكر له، حين قرر العسكر حينذاك حل البرلمان الذي كان يرأسه آنذاك، تحسبا لإلغاء المسار الانتخابي، المستحوذ عليه في انتخابات 1991 من طرف إسلاميي جبهة الإنقاذ.كان بلخادم قد واجه في مساره السياسي مرحلتين حساستين، ارتبطت الأولى باتهامه من طرف قيادات وضباط في المؤسسة العسكرية بميولاته الإسلامية وعلاقات مفترضة مع إسلاميي جبهة الإنقاذ، حسب تصريحات سابقة أدلى بها وزير الدفاع السابق الجنرال خالد نزار، وفي الثانية تعرض لحملة تشويه لشخصه ولعائلته تتعلق بالعمالة للاستعمار والخيانة، من طرف الأمين العام للحزب الذي خلفه عمار سعداني. ومع تهليل أنصار بلخادم والمقربين منه، لقرار العودة إلى الواجهة عبر بوابة الحزب الحاكم، على أمل إعادة الهيبة والانضباط إلى حزب جبهة التحرير الوطني الذي غرق في شوائب خطاب بهلواني وعدائي مارسه كل من عمار سعداني وجمال ولد عباس، فإن هناك من تحفظ على تلك العودة، معتبرا إياها قرارا مناسبا لكنه في وقت غير مناسب، قياسا بما وصفوه بـ“الوضع الموبوء بالرداءة والانفلات داخل الحزب والسلطة، الذي يسيء للرجل أكثر مما يفيده، وقد ينزل به إلى حضيض رموز السلطة الذين يمقتهم الرأي العام”. ويرى فاعلون في الحزب الحاكم أن “شخصية بلخادم لا تتواءم مع قيادة الحزب ومع تسيير التوازنات الداخلية، التي تتطلب كاريزما معينة لا تتوفر في الرجل”، وتوقعوا فشله في المهام الموكلة له، واستدلوا بالتنحية المثيرة للأمين العام الراحل عبدالحميد مهري في 1996، رغم ما للرجل من رصيد نضالي ودهاء سياسي، خاصة وأن شأن الحزب مرتبط بالسلطة وهو ذراعها السياسية الأولى، ولا يملك قرارا مستقلا ينبع من إرادة قواعده.وهو ما يفضي إلى الاستنتاج بأن قرار العودة، هو قرار سياسي فوقي، شأنه شأن استقدام ولد عباس وتنحيته، وهو مصير ليس ببعيد عن بلخادم، رغم ما يعول عليه من تقديم خدمات نوعية يقدمها لأصحاب القرار في الظرف الراهن. ما يؤشر أيضا إلى أن مفردات مهمة التطهير من الدخلاء، تتضمن أيضا إمكانية إبعاد رموز أو أجنحة من الحزب، بات وجودها غير مرحب به، لاعتبارات تمليها إفرازات التوازنات الفوقية المتصارعة، حول الخارطة السياسية للبلاد، بعد الانتخابات الرئاسية المنتظرة. بلخادم يبقى من الشخصيات الجبهوية القليلة، التي حافظت على علاقاتها الاجتماعية وعلى أنصارها، بتوظيف مبكر لشبكات التواصل الاجتماعي، الذي استغلته ذراعه النضالية والإعلامية المعروفة بـ”لجنة الوفاء”، التي صمدت في وجه مساعي المسح والتشويه، وأجهضت الكثير من المناورات التي كانت تستهدف مكاسبه السياسية، وانتقدت بشدة خطاب القادة الذين خلفوا بلخادم في الحزب الحاكم منذ العام 2012. وأخيرا يشهد لبلخادم أنه لم ينزل إلى مستوى خصومه ومنتقديه سواء في مواقف ضعفه أو قوته، فلم يرد على تهم دعم الإسلاميين التي أطلقها وزير الدفاع السابق خالد نزار، حين نُحّي من منصبه، وهو فاعل مهم في محيط بوتفليقة، ولا على سعداني، الذي اتهمه بالعمالة والخيانة والعمل لفائدة جهاز الاستخبارات المنحل، حين عاد مؤخرا من الأبواب الواسعة.
مشاركة :