أصبحت شبه القارة الهندية - ابتداءً من القرن الثاني عشـر الهجريِّ - بمثابة الجزء الحاسم الحسَّاس من العالم الإسلاميِّ. ومن هنا يمكننا أن نتفهَّم طبيعة الدَّور الذي قام به حكيم الإسلام الشيخ ولي الله الدهلوي، الذي قام بدور مهم في إحياء الفهم للدِّين من خلال الكشف عن أسرار الشريعة ومقاصدها، والتوفيق بين العقل والنقل، فضلا عن دوره الخاص بالعمل على إصلاح العقائد والرد على المذاهب الباطلة، إلى جانب محاولته تجسير الهوَّة الفاصلة في ما بين المذاهب الفقهية السائدة ورفع الفجوة بين المنتمين إليها. وعلى الرُّغم من أنَّ حركة إمام أهل السُّنَّة والجماعة كانت قد بدأت في القرن الثاني عشر الهجريِّ/ الثامن عشـر الميلاديِّ، إلَّا أنَّها تعد في منزلة أم الحركات الإحيائية التجديدية في العصر الحديث بشبه القارَّة الهندية، بحيث يتعذَّر من دون دراستها فهم جميع التَّيارات الفكرية اللاحقة لها زمنيا، المتأثرة بها فكريا. وممَّا يزيد من أهمية هذا الاعتبار، أنَّ جهود الدهلوي قد تمت في خضمِّ عصر الفوضى السياسية واحتضار الدولة الإسلامية في شبه القارَّة الهندية. ومن ثمَّ، فقد امتدَّ دوره الإصلاحي ليشمل مساحات مكانية وزمانية واسعة تعد من أوسع المساحات التي قُيّضت لمصلح ديني، وعالِم مؤلِّف، مضافا إلى ذلك كلّه إحياء الجهاد، ومقاومة الخطر على حرية المسلمين وسُلطتهم. ويبدو من سياق العصر الذي وجد فيه الدهلوي أنه كان قريب الشبه إلى عصر ابن تيمية الحرَّاني من حيث انحطاط الدولة، وذهاب هيبة الخلافة، وتعويلهما على الكتاب والسُّنَّة باعتبارهما الأصل والأساس في حل جميع المعضلات والمشكلات الواقعية، فضلا عن ظهور الحاجة الماسة إلى إعمال العقل واتساع رقعة الاجتهاد. وبهذا التوافق الفكريِّ يكون لدينا سلسلة مكونة من مؤسِّس ووسيط ومجدِّد. أمَّا المؤسِّس فهو ابن تيمية، وأمَّا الوسيط السابق على الدهلوي فهو الشيخ أحمد بن عبد الأحد؛ المعروف بالإمام السرهندي (971 - 1034هـ)، وأمَّا المجدِّد فهو ولي الله الدهلوي. فقد حاول الدهلوي أن يعيد توازن القوى المتصارعة في عصره لصالح الإسلام، وذلك من خلال كتاباته أولا، وعبر ترجمته القرآن الكريم ثانيا. قاصدا من وراء حركته التجديدية الإصلاح بين مختلف الفرق والمذاهب الإسلامية؛ لأنَّه كان يرى في تفرُّقها سببا في ضعف الإسلام. وبعد وفاته تولّى ابنه الشاه عبد العزيز الدهلوي قيادة الحركة التجديدية، بالإضافة إلى تولّي مسنده في التدريس. على أنَّ ظروف الابن كانت أكثر صعوبة عن حقبة أبيه؛ حيث بدأ تأثير كل من السِّيخ والإنجليز ينمو باضّطراد في الحياة السياسية والاجتماعية لشبه القارَّة الهندية، ما دفع الابن لأن يقوم بحملة عسكرية خلال العام 1246هـ، لصدِّ ومواجهة طائفة السِّيخ في منطقة "بالاكوت". وقد بقيت حركته الجهادية تُمارس كفاحها المسلَّح ضد الإنجليز إلى وقت خروجهم من الهند. بموازاة ذلك؛ كانت الحركة "الفرائضية" التي أسَّسها الحاج شريعة الله في العام 1804م، قد بدأت هي الأخرى سلفية مهتَّمَّة بتنقية التوحيد من الشوائب الكثيرة التي علُقتْ به، ثمَّ سُرعان ما اكتسبت طابعا سياسيا في عهد ابنه الملقَّب بـ "دودو ميان"، الذي جمع الفلاحين والحرفيين المسلمين في مجموعات ودعاهم لمقاومة ملَّاك الأراضي الكبار إلى جانب البريطانيين عن طريق الإضرابات والتظاهرات والهجرة وعدم إقامة الصلوات العامّة؛ كالجمعة والعيدين، ما دامت السلطة في البلاد ليست بيد المسلمين. ولما ضيَّق الإنجليز على علماء الهند المسلمين، نشأت حركة تعرف باسم "ديوبند"؛ أي: حركة المحافظة على التَّديُّن. وقد انخرط أعضاؤها في الكفاح المسلَّح ضد المحتلين، وتعاونوا في هذا الإطار مع الهندوس، وانضمَّ بعضهم إلى حزب المؤتمر الهنديِّ، وعلى رأسهم: الإمام المجدد أبو الكلام آزاد، والشيخ محمد قاسم النانوتوي، والشيخ حسين أحمد المدني وغيرهم. وفي السياق ذاته، تندرج جهود الشيخ أبي الأعلى المودودي (1321هـ/1906م- 1368هـ/1949م)، حيث كان والده السيد أحمد حسن المودودي (ولد سنة 1266هـ- 1850م) أحد خريجي كلية عليكرة التي أسسها السيد أحمد خان. وعقب تخرُّجه عيّن مدرِّسا بها، كما اشتغل بمهنة المحاماة. في تلك الأثناء تركزت جهود الإمام أشرف علي التهانويِّ (1863-1943) الإصلاحية على الجوانب الإصلاحيِّة العمليِّة في شبه القارة الهندية، حيث نشأ في مناخ من الفرقة والاضطهاد بسبب الاستعمار، وفي زمن غلب فيه على المسلمين اليأس والشعور بالنَّقص. ومن ثمَّ، كان مجال نشاطه واسعا يمتدُّ إلى كافة فئات المسلمين وطبقاتهم الثقافية. وقد حاول التهانويُّ أن يُذكِّر أبناء الإسلام بقيمة الإيمان في حياتهم، ويحرّضهم على ترجمة الإيمان بالله إلى واقع الإصلاح البنَّاء المركِّز على تنمية الشخصية الإسلامية المتكاملة، بعد أن تمزَّقت هذه الشخصية وفقدت مركزيتها وقُسِّمتْ هويتُها بين الولاءات المختلفة: فمن كان ينتمي إلى طريقة صوفيّة كان منعزلا عن واجبات الحياة الإسلامية العائلية والاجتماعية. ومن كان مهتما بالسياسة لم يكن مُلمّا بإصلاحه الرُّوحيِّ ولا بتقوية إيمانه الدّاخليِّ؛ ليتجلَّى إيمانه في سلوك أخلاقيٍّ قويم يؤثِّر على سياسته وعلى نشاطاته الأخرى. وتبعا لذلك، اختار التهانويُّ طريقته الإصلاحية الخاصَّة التي تركِّز على إصلاح الفرد المسلم، وذلك من خلال مجموعة من العناصر الرئيسة التي وسمت طابعه الإصلاحي بالطابع العملي؛ وفي مقدمتها: الاتصال الشخصي بالأفراد والاتصال الاجتماعي بالمجموعات، والمراسلة المستمرة بين الأفراد، الأسفار والرحلات لمخاطبة الجماهير وتوعيتها، وتأليف الرسائل والكتب لمخاطبة أهل العلم، فضلا عن ممارسة الافتاء، ومحاولة الاتصال بقادة المسلمين وسادتهم لتغيير الرأي العام، مع الاهتمام بتثقيف النساء وتوعيتهن بصورة خاصة، وكذلك الاتصال بالعلماء وأرباب الطرق الصوفية، وأخيرا التدريب العمليِّ للحياة الإسلامية في مركزه الخاص، وإرسال الدعاة والمرشدين إلى بلاد نائية في القرى والأرياف. وفي المحصلة، كان التهانويُّ يؤمن بأنَّ إصلاح المجتمع يتطلب إصلاح الأفراد، كما كان يعتقد اعتقادا جازما بأنَّ الإصلاح الرُّوحيَّ والأخلاقيَّ للأفراد يقتضي التركيز على تعليمهم مقتضيات حسن المعاشرة. ولذلك كان يُقسِّم تعاليم الإسلام وشريعته إلى كلٍّ من: العقائد، العبادات، المعاملات، الحياة العائلية والمعاشرات. وهكذا استطاع الإمام بجهوده المستمرة، التي دامت ستين عاما، أن يُغيِّر وجه المجتمع الإسلاميِّ الهنديِّ خلال هذه المدة من كلِّ النَّواحي. وقد تأثَّر بجهوده الإصلاحية مجموعة كبيرة من الناس من مختلف مجالات الحياة. فقد كانت النقطة الأساسية في تعاليمه الإصلاحية تتمثَّل في علاقة الإنسان المسلم بربِّه؛ والتي تتركَّب من ثلاثة عناصر رئيسية، هي: طاعة الله بإخلاص النيَّة، ومحبة الله بالقلب، ومعرفة الله بالعقل والقلب معا. وبحسبه؛ فإنَّ كلًّا من هذه العناصر يُقوِّي بعضُه بعضا بحيث تؤدِّي الطَّاعة إلى المحبَّة التي تمهِّد السبيل إلى المعرفة، ثمَّ تعود المعرفة لتقوِّي الطَّاعة، وتقوِّي الطاعةُ المحبَّةَ، وتزيد المحبَّة في المعرفة، وهكذا يستمرُّ السَّير العمليُّ والسُّلوك الرُّوحيُّ في حياة الفرد والمجتمع. ومن جهة أخرى أكَّد التهانوي أنَّ السَّير الرُّوحِيَّ للعبد نحو الخالق وطاعته ومحبته ومعرفته، لا يتحقَّق إلَّا بسعي العبد وكفاحه طيلة حياته، وأنَّ الله سبحانه وتعالى قد وعد العبد بأنَّه يهديه سبيل الرشاد بالسعي والجدِّ والجهد والاجتهاد، مصداقا لقوله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَناۚ وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ".ولذلك كان يحثُّ تلامذته دائما على ممارسة الأعمال التي هي في نطاق القدرة الإنسانية حيث لا يكلِّف الله نفسا إلَّا وُسْعَهَا، وأمَّا ما كان خارج طاقة الإنسان؛ فأمرُه مؤكَّلٌ إلى الله تعالى. ولا شك في أن رسالة الإمام التَّهانويِّ هي رسالة رجاء وأمل؛ استنادا لقوله تعالى: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ"، وقوله أيضا: "يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر". فقد أدام النَّظر بإمعان في الأحوال والظروف والمشاكل والعقبات التي تقف حائلا في طريق الإسلام والمسلمين في شبه القارَّة الهندية إبَّان عصره، وكان ذا بصيرة ثاقبة في تحليل الأحوال النفسيّة لأبناء الإسلام؛ ليصل في نهاية الأمر إلى يقينه الخاص بأنَّ حلَّ كافة المشاكل التي تُواجه المسلمين في شبه القارَّة وغيرها، إنَّما يكمنُ في أمرين اثنين لا ثالث لهما، وهما: العودة إلى أصول الإسلام، واستعادة القوى الرُّوحيَّة الكامنة لدى الأفراد من خلال هذه العودة.
مشاركة :