يشكل فصل الشتاء الذي يبدأ رسميا اليوم "السبت" مصدر الهام لكثير من المبدعين في الشرق والغرب وقد يتحول إلى عنوان لروايات أو قصائد شعر مثل الرواية الجديدة التي صدرت بالإنجليزية في لندن بعنوان "الشتاء" للكاتبة آلي سميث.ومن الطريف ان الكاتبة الروائية المصرية ياسمين الرشيدي التي تبدع بالانجليزية وحققت حضورا واضحا في الصحافة الثقافية الغربية لم تغفل في تناول نقدي للرواية الجديدة التي صدرت بعنوان "الشتاء" للكاتبة البريطانية آلي سميث أنها قرأت هذه "الرواية الشتوية" في القاهرة المشمسة حتى في الشتاء.وأجواء رواية "الشتاء" التي تأتي ضمن رباعية لآلي سميث التي ولدت عام 1962 بأسماء الفصول الأربعة وتدور في احتفالات الكريسماس ورأس السنة الميلادية حظيت بمتابعات وكتابات نقدية متعددة في الصحافة الثقافية الغربية من بينها طرح للكاتبة المصرية ياسمين الرشيدي التي ولدت عام 1977 في القاهرة. و"رواية الشتاء" التي صدرت ضمن رباعية روائية ستتوج بإصدار رواية بعنوان "الربيع" في شهر أبريل المقبل تحمل رؤى آلي سميث بشأن "القوى المتصادمة في عالمنا الراهن والتي تصنع الحاضر"، فيما تتعاقب الفصول ضمن رؤية هذه الكاتبة الاسكتلندية الأصل للزمن وتفاعيله وتصوراتها لمستقبل العالم.ولئن لفتت ياسمين الرشيدي الى قسوة معطيات الحياة التي كابدتها آلي سميث في بدايات مسيرتها كمبدعة في الرواية كما تحدث البعض عن قسوة الشتاء على الأدباء أصحاب الجيوب الخاوية فإن الكاتبة البريطانية الشهيرة جوان رولينج التي عانت كثيرا في بدايات مسيرتها الأدبية من قسوة حياتها وافتقارها للمال في ادنبرة عاصمة اسكتلندا بدت حريصة بعد أن ذاعت شهرتها على نفي صحة ما تردد من أقاويل من أنها كانت "تكتب في مقاه محلية هربا من شقتها غير المزودة بالتدفئة في الشتاء".وقالت صاحبة السلسلة الروائية الشهيرة "هاري بوتر" والحاصلة على وسام الشرف البريطاني:"لست غبية لهذا الحد لأستأجر شقة بلا تدفئة في ادنبرة في منتصف الشتاء". موضحة انها كانت تحب الكتابة في المقاهي "التي تجعل ابنتها تنام بعد جولة من التنزه".اما الكاتب والروائي والبرلماني المصري يوسف القعيد، فيقول إن الشتاء فصل من فصول السنة لكنه يوجع قلبه جراء معاناة الفقراء "الذين يتعرضون لبرد الشتاء ومطره ورياحه الثلجية" فيما يستعيد قصة طويلة كتبها في مجموعته القصصية الأولى "طرح البحر" بعنوان:"الشتاء يأتي الى الضهرية" وفيها "كل تجليات الشتاء عندما يكبس على المحرومين".واذا حق القول بأن ثمة علاقة خاصة وحميمة بين المبدعين والشتاء، فمن الحق القول أيضا إنه مع أن أيام هذا الفصل تأتي بالبرد فإن الشتاء يشعل الإبداع حتى أنه كان الفصل المفضل للكتابة عند الأديب النوبلي المصري الراحل نجيب محفوظ. وليس من الغريب أن تتزامن بدايات الشتاء مع موجة من الكتابات الصحفية التي يمكن وصفها "بكتابات الشتاء" حيث تتوالى مفردات وتعبيرات من قبيل:"الشتاء الذي يدق على الأبواب" و"زخات وسيمفونيات المطر".وثمة إشارات طريفة في هذا السياق "للسجال على مواقع التواصل الاجتماعي بين محبي الشتاء ومحبي الصيف" ناهيك عن استدعاء مقولات اكثر طرافة من المأثور الشعبي المصري تتناول شهور الشتاء وخاصة شهر طوبة باعتباره شهر البرد القارص مثل:"برد طوبة يخلي الشابة كركوبة"!.وكانت المطربة عفاف راضي قد تغنت بكلمات للشاعر الراحل سيد حجاب في أغنية لحنها الراحل عمار الشريعي بعنوان "امشي عنه" وهي حافلة بمصطلحات الشتاء المصري بمفردات العامية مثل:"روح يابرد طوبة للدبة الدبدوبة..وابعد عن حبيبي وكل اللي في سنه...يامطرة رخي رخي روخي على سطوح بيتنا لكن اياك تبوخي بردك على ريش كتاكيتنا"، فيما تنتهي هذه الأغنية الموجهة للأطفال بالكلمات الطريفة:"روح يابرد طوبة للدبة الدبدوبة وابعد عن حبيبي وكل اللي في سنه".ومع "إنذارات الشتاء" التي تتجلى في تحذيرات الهيئة العامة للأرصاد الجوية من "الشبورة المائية الكثيفة خلال الساعات الأولى للصباح" وتطمينات بشأن "طقس شتوي مائل للدفء" فانها سواء كانت إنذارات او تطمينات تحفز الذكريات.فلذة الابحار في الذات والترحال في الذاكرة قد تحلو اكثر في ليالي الشتاء ونهاية العام وكأن ذاكرة الشتاء هي ذاكرة موازية صافية للذاكرة المحتشدة بلحظات مكثفة كأنها سنوات وبكثير من ضجيج الأيام السابلة ولغو العادي.واذا كان مجيء الشتاء يقترن برحيل عام واطلالة العام الجديد وهي مسألة تثير دوما تآملات للكتاب والشعراء فها هو الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة الذي كتب غير مرة عن الشتاء يقول:"شتاء بارد وعام يشد الرحال ويمضي"، فيما يسأل قارئه:" ما الذي تفعله الآن وانت تصافح اخر أيام السنة واخر ذكرياتك معها بينما الشتاء يدق الأبواب بقسوة وكأنه نواقيس تعصف بالزمن والأشياء..ماذا تفعل الآن وانت تودع عاما وتدرك انه اخذ كل اشيائه ورحل وانه لن يعود مرة اخرى"؟!.وبطرافة ينصح فاروق جويدة قارئه في جريدة الأهرام بأن "يرتدي ملابس ثقيلة ويختار مكانا بعيدا على شاطيء النيل في منتصف ليل القاهرة" مضيفا "حاول ان تهبط قليلا لتكون قريبا من مياه النهر العتيق" مؤكدا للقاريء انه "مااجمل ان تودع العام بين أحضان النيل وتستعيد معه ذكريات زمان رحل".وها هي الكاتبة والروائية الكبيرة الدكتورة نوال السعداوي تستعيد "قطرات المطر التي ترقص في الشتاء" وتتذكر شقيقها وهو يدق العود فيما كان عقلها وهي طفلة يتساءل:"من اين يأتي ماء المطر ومن اين يأتي النغم من الوتر"؟.وضمن تآملاته حول الشتاء يقول الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة:"في الشتاء تزورنا دائما اطياف من الشجن..مع رحيل عام نشعر بالحزن ونحن نودع زائرا لن يعود وحين نستقبل عاما جديدا تطوف حولنا الهواجس والظنون عن احوالنا فيه".واضاف:"وسط هذا كله شتاء بارد وليال طويلة موحشة تستعيد وجوها تركت لك فرحة عابرة ووجوها اخرى تركت لك جراحا تحاول ان تنساها..ومابين حلم رحل واحلام قادمة تجلس في انتظارها رغم انها مجهولة الملامح يطل عليك من بعيد ذلك الوجه البريء الذي اختفى في صخب الأيام وضجيج الرحلة وتحاول وانت تجلس امام مدفآة عتيقة ان تستعيد مابقى من الملامح".ويتابع جويدة قائلا لقارئه: "مع آخر رجفة في عام مضى سوف تدور حولك الصور..سوف تذكر من احبوك ومن باعوك ومن كنت لحظة عابرة في حياتهم" كما يهمس لك هذا الكاتب والشاعر المصري الكبير في لحظة تآملات في نهاية عام واطلالة عام جديد وهو يوصيك بأن تحاول ان تتوقف عند صورة بريئة جميلة تشبه زهرات الشتاء.ففي نهاية العام ومجيء الشتاء "نجد انفسنا عادة نحلق في دفاتر ذكرياتنا" وكما يقول جويدة بلغته الشاعرة:"ما أكثر الوجوه العابرة ولكن اي الوجوه سيبقى معنا..هذا هو السؤال حين ينتصف الليل وتعلن الساعة ميلاد عام جديد".واذا كان فاروق جويدة قد اعتبر انه اذا كان الصيف يطارد المشاعر ويشعر الانسان بقسوة الظروف والربيع فصل مزيف يسرق الأيام من فصول أخرى والشتاء فصل موحش اذا لم تجد فيه الحب والدفء" فهناك من المبدعين من رفض موت الحب في الشتاء مثل المبدع المصري الراحل صلاح جاهين عندما قال في رباعياته:"دخل الشتا وقفل البيبان على البيوت..وجعل شعاع الشمس خيط عنكبوت..وحاجات كتير بتموت في ليل الشتا لكن حاجات اكتر بترفض تموت".ورغم برودة الجو وامطار يمكن ان تسقط بغزارة فللشتاء عشاقه الذين يطربون حتى لكلمات وتعبيرات في مدن ساحلية كالأسكندرية مثل "نوة المكنسة" و"نوة قاسم" و"نوة الفيضة الصغيرة" و"نوة عيد الميلاد" و"نوة الفيضة الكبيرة" وهي نوات قد تشتد فترغم الكثير من السكان على التزام بيوتهم.وفي مواجهة ظاهرة ارتفاع منسوب سطح البحر التي تأتي ضمن الآثار السلبية لظاهرة التغيرات المناخية كانت هيئة حماية الشواطيء التابعة لوزارة الري قد أعلنت حالة الطوارئ القصوى طوال موسم الشتاء لحماية الشواطيء بالمحافظات الساحلية في شمال مصر.ولئن استمر الحديث في السنوات الأخيرة عن أزمة القراءة التي تستفحل في بلادنا فلعل الشتاء يعيد الاعتبار لمتعة القراءة كما عرفتها اجيال سابقة فيما تحفل الصحافة الغربية بمواضيع دالة حقا في هذا السياق تتضمن اقتراحات واستطلاعات لآراء ثلة من الكتاب والنقاد عن احلى الكتب التي يمكن ان تثير الدفء في نفس قارئها وتمنحه المتعة في هذا الشتاء حيث يطول الليل ويقصر النهار.وبقدر ما يثير الشتاء الشجن والذكريات بقدر مايتوهج الشعر حتى ان الكاتب والروائي يوسف القعيد يذهب الى أن "التعبير الأدبي عن الشتاء شعرا سبق السرد" ويقول: "في الشعر الغناء الشتوي لاينتهي".ولعل ذلك يتجلى في ديوان الشاعر حسن طلب: "باب الصبابات/فصل الخطاب" حيث الشتاء حاضر بوضوح في "فصل الفصول" والعناوين الفرعية بدلالات واشارات العاشق الذي يهدي اغلى مايملك وهي القصيدة المشبوبة بالعواطف للحبيبة وحيث قصيدة "ذكرى" من وحي الشتاء كما كانت قصيدة "برهة" من وحي الصيف" فيما جاءت "ديمومة" من وحي الربيع و"مسافة" من وحي الخريف.واذا كان الحديث عن الشتاء والمطر والشعر فمن الذي ينسى ديوان "انشودة المطر" وقصيدة "مطر" للشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب الذي مازال حاضرا بابداعه في ديوان الشعر العربي رغم انه قضى منذ عام 1964 فيما يحلو لبعض العشاق من الماء الى الماء ان يرددوا بعض ابيات تلك القصيدة التي جمعت مابين الغزل والنزعة الثورية الراديكالية لهذا الشاعر الثائر والذي يقول للحبيبة:"عيناك غابتا نخيل ساعة السحر او شرفتان راح ينأى عنهما القمر" وهو الذي قال لها ايضا:"عيناك حين تبسمان تورق الكروم".انه السياب العاشق والثائر الذي قال للحبيبة:"مطر.مطر.اتعلمين أي حزن يبعث المطر"؟ فيما يخاطب غور عيني الحبيبة:"دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف، والموت والميلاد والظلام والضياء" ثم يعود لذكرياته مع الشتاء والمطر قائلا:"منذ ان كنا صغارا كانت السماء تغيم في الشتاء ويهطل المطر" وهانحن نتمنى معه ان "يعشب العراق بالمطر".وعن المطر والشتاء يعود الكاتب والشاعر المصري الكبير فاروق جويدة ليقول: "في الشتاء تغتسل الطبيعة من ادران الفصول الأخرى..ان المطر يطهرها والرياح تعيد لها الاحساس بالحياة في مواجهة العواصف".ويتابع: "فصل الشتاء من احب الفصول الى قلبي، والفصول مثل المدن..مثل النساء..كل امرأة مدينة مستقلة وكل مدينة امرأة بلا حدود والفصول تحمل نفس صفات المرأة ونفس صفات المدن" موضحا انه يحب الشتاء "لأنه الفصل الوحيد في العام الذي يقربه كثيرا الى نفسه".وتحت عنوان "رجعت الشتوية" كان فاروق جويدة قد اعتبر ان الشتاء "اكثر فصول العام انسانية" ورأى ان "حالة الانكماش التي يشعر بها الانسان في فصل الشتاء تجعله يقترب كثيرا من ذاته وهنا يمكن ان يكون الحوار والتأمل واستعادة الثقة في الأشياء" مضيفا:"في فصل الشتاء نتحاور كثيرا مع انفسنا لأننا ننصهر في بوتقة واحدة".وشأنهم شأن غيرهم من العرب يردد المصريون بشجن الشتاء رائعة المطربة اللبنانية فيروز:"رجعت الشتوية" التي تتذكر فيها أيامها مع حبيبها بكلمات والحان الاخوين رحباني وتقول ونقول معها:"رجعت الشتوية ضل افتكر بي..رجعت الشتوية ياحبيبي الهوى مشاوير".وفي بوحه عن الشتاء، قال الشاعر فاروق جويدة:"في الشتاء احن كثيرا الى فيروز: ورجعت الشتوية.. والى فريد الأطرش:وادي الشتا ياطول لياليه" مضيفا:"واتذكر وجوها غابت ومع الشتاء ينتفض الحنين".واذا كانت مشاعر الحب في فصل الشتاء من المواضيع المفضلة لشعراء ومطربين عرب، فقد يشد الحنين بعض من ينتمي من حيث العمر لفئة كبار السن للخروج والتقافز تحت المطر فتحذره حمولة الأيام وتكبح جماحه وتذكره بأن الجسد لن يتحمل بسهولة وطأة السقوط الآن على ارض زلقة تحت المطر!.انها حمولة الأيام التي تتحول لجبل يطفو على جليد اللحظة لكن الجليد ينصهر احيانا بدفء الذكريات للباحثين عن شييء من الفرح في ضوء شمس تسطع فجأة بين غيوم الشتاء وهؤلاء الذين يحلو ان يرددوا مع فيروز بلبنايتها الدارجة:"شتي يادنيي تزيد موسمنا ويحلى وتدفق مي وزرع جديد بحقلتنا يعلى".وها هو المطرب المصري علي الحجار قد استدعى بحنجرته الرائقة وبالعامية المصرية ذكريات الشتاء او تستدعيه نداءات الشتاء فيقول:"لما الشتا يدق البيبان..لما تناديني الذكريات..لما المطر يغسل شوارعنا القديمة والحارات..القاني جايلك فوق شفايف بسمتي..كل الدروب التايهة تنده خطوتي".فالشتاء قصيدة من ذكريات ودموع وابتسامات ومفارقات وما احلى واعذب السير في ليالي شتاء القاهرة أما الأسكندرية فما كان اجمل منها في الشتاء حتى انها تكاد تجسد كلمات الأخوين رحباني على شفتي فيروز:" كل قلب كل مرج زهر فيه الحب مثل التلج" بينما يشدو المصري علي الحجار: "مش جاي الومك على اللي فات ولا جاي أصحي الذكريات لكني باحتجلك ساعات لما الشتا يدق البيبان"!.ولئن رأى إبراهيم عبد الفتاح صاحب كلمات أغنية علي الحجار "لما الشتا يدق البيبان" أن " اجمل معاني الحب غنتها النايات" فلنستدعي صوت فيروز فى الشتاء عندما يحلو شدوها الفتان:"اعطنى الناى وغنى" !.
مشاركة :