ظهيرة 22 ديسمبر .. مهرجان “شتاء الطنطورة” في العلا

  • 12/22/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كعادة أهالي العلا _ خاصة في السنوات الأخيرة _ كل ظهيرة 22 ديسمبر من كل عام يحتفلون احتفالهم التراثي الموسمي العميق الجوهر الأنيق المظهر من غير مظاهر بهرجة مبالغ بها بمناسبة دخول مربعانية الشتاء التي اصطلح على تسميتها الاحتفالية ب(بمربعانية الطنطورة) حيث يتم ومنذ أزمنة قديمة لايعرف تأريخها الدقيق بالضبط احتساب بدء موسم مربعانية الشتاء بالثانية من الدقيقة من ظهيرة 22 ديسمبر من كل عام عن طريق ( المزولة الشمسية ) المشيدة لنقل منذ مئات السنين بالحسابات التقريبة غير الدقية لتشييد الطنطورة كما ذكرت آنفا في البلدة القديمة من العلا الشمالية الواقعة شمال غرب المدينة المنورة كأخر نقطة جغرافية في إقليم الحجاز القديم وأول نقطة جغرافية في إقليم بلاد الشام القديم بحسب الجغرفة القديمة وآخر محافظة شمالية غربية تابعة إداريا لمنطقة المدينة المنورة بحسب التصنيف الإداري وبالتالي الجغرافي الحديث. يحدث ويسجل فلكيا دخول مربعانية الشتاء في العلا عندما يتعامد ظل أعلى نقطة في الشاخص البنائي لهذه المزولة الشمسية المسماة ب(الطنطورة) مع نقطة معينة موسومة بحجر مغروس ثابت في الأرض شمال موقع الطنطورة التي هي بحق إحدى منجزات أهالي العلا الحضارية الشاهدة على تميز أهالي العلا وتفوقهم في العلم ومدركات احتياجاتهم الكلية التي تذوب داخل منظومتهم العملية ومكوناتهم الاجتماعية كل فردانية غير منتجة وتطفو الجماعية المنتجة للنافع من الحياة على سطح طبيعتهم الفكرية والمسلكية. وبالنظر لقدم تكويين مجتمع العلا بذات مكوناته العشائرية والأسرية داخل كل عشيرة أوحمولة وكلها باقية حتى اليوم. فهو مجتمع ضارب العراقة والقدم والتكوين بموجب مخطوطات الوثائق الحقيقية المدونة مابين أعوام 780 هجرية و 850 هجرية. والوثائق ذاتها هي أيضا منجزات ذات طابع اجتماعي ثقافي ويمكن الاعتماد عليها من الناحية العلمية التأريخية في رصد أقدم تاريخ للهجة العامية كون الوثائق التي تم تدوينها في العلا قبل 800 عام تقريبا..وتمثل بعض العقود الاجتماعية للتعايش بين مكونات المجتمع مدونة باللهجة العامية في وقت كان العرب في حياتهم يدونون كل شؤون حياتهم وآدابهم ورحلاتهم وصنوف مؤلفاتهم بالعربية الفصحى. كما هي أيضا أي الوثائق حافلة بتوثيق العديد من مظاهر الحياة في العلا القديمة..سواء مايتعلق بالعادات والتقاليد والآداب والثقافات والأعراف الضابطة لصيرورة الحياة وعلاقات الناس أو مايتعلق بسبل الحياة العملية وطرائق العيش بأفراحها وأتراحها. لذلك احتفال أهالي العلا بلحظة دخول (مربعانية الشتاء) في موقع الطنطورة ذاتها في ظهيرة 22 ديسمبر من كل عام لايتوقف عند المشهد الظاهر المعروف سلفا للجميع كترقب ورصد مجرد لدخول فصل مربعانية الشتاء فقط..ولكنه احتفال أعمق وأشمل وإن كان مختزلا مظهريا فهو يستدعي من خلاله أهالي العلا منجزات الأسلاف من الأجداد والأباء. منجزات ارتبطت بالهندسة العمرانية الفريدة للبلدة القديمة..ومنجزات ارتبطت بالحكايا الماجدة،والبطولات المجيدة..ومنجزات ارتبطب بالزراعة والحصاد ومابينهما من تفاصيل دقيقة لايدرك مشقتها وأسرار دقتها المنتجة إلا أهل الزراعة بما في ذلك الأهم بطبيعة الحال أي الري ووسائل السقاية وطرائق إدارة حصص المزارعين من مياه العيون لمزارعهم التي هي الأخرى يتم احتسابها بشكل زمني دقيق بمايشبه الهندسة الزمنية عن طريق تعارف على تسميته أهالي العلا ب(الورقة) أي الحصة لكل مزرعة من ماء العيون التي كان عددها مايقارب من الثمانين عينا تقلصت مع الزمن تدريجيا إلى أن تلاشت مع طفو المدنية الحديثة وظهور الميكنة التي ساهمت في نضوب المياه الجوفية في أكثر من مستوى طبقي. أيضا في القدم كانت المساحة المجاورة للطنطورة التي هي اليوم مقر الاحتفال السنوي أشبه بالبرلمان بالمفهوم المعاصر إن جاز التعبير..إذ يجتمع أهالي العلا في ذات المكان للتداول في أمور حياتهم اليومية للتشاور في مابينهم واتخاذ القرارات العامة للصالح العام.. كما تشهد الطنطورة أيضا بجانب أكثر من نقطة في البلدة القديمة انطلاقة رحلة الشتاء والصيف لأهالي العلا مابين بيوت النخل الصيفية في البساتين عندما يحل الصيف بمباهجه طلبا للاستمتاع بأجواء صيفية ألطف ومتوجة بالأفراح والليالي الملاح مع أعراس موسم الزواجات في الصيف،وأيضا لرعاية شؤون النخيل وجني محاصيلها بمايسمى ب(الجداد).. وبين بيوت(الدور) في البلدة القديمة ذات السور الحصين وال14 بوابة،وتوزيعات فراغية هندسية مابين الدروب والأزقة والبرحات ومساحات ماتحت (السقايف) و(الطيارات)أي الغرف العلوية المعلقة الواصلة مابين بيت وبيت فوق الأزقة وكل المدينة بطبيعتها هذه المدهشة التي أدهشت الرحالة الذين زاروها من مختلف الأمصار وفي مختلف العصور ودونوا عنها كل دهشتهم وهم أهل مدن وأرباب مساكن فائقة المدنية على مافي البلدة القديمة المخصصة بالكامل لسكنى الشتاء لطبيعتها الهندسية المعمارية المتداخلة المتعرجة الطرقات اللصيقة الحارات كمتاهة للغريب إن حدثته نفسه وقرر غزو البلدة أو اختراقها من أية جهة لإحداث مايعكر صفو البلدة وأهلها فيكون مصيره/العقوبة التلقائية بالضياع داخل أزقة البلدة إلى أن ينتهي مصيره إلى القبض عليه وإنهاء شره. أيضا من مناقب الطنطورة المتجاوزة للجوانب الفلكية هي أيضا رمز لوحدة أهالي العلا بكافة أطيافهم ومكوناتهم الاجتماعية غير المعقدة التركيب الاجتماعي..فمن الناحية السيسيولوجية مجتمع العلا حضري ريفي في كل شيء وأصيل الثقافة مستقل المفاهيم الفكرية التي لم تترك ثقافة أخرى دهيلة عليه أثرها السلبي البالغ رغم تقاطع الحضارات والثقافات في مساحة العلا الجغرافية الصغيرة جدا وعبر آلاف السنين وليس مئات السنين وحسب ومن يعش في العلا يتعايش مع تركات 5 حضارات قديمة آثارها ومدوناتها المنحوتة على الصخر والحكايا الشفاهية المتوارثة دائمة الحضور لاينضب معينها عدا عن وقوع العلا على درب البخور ومن ثم درب قوافل الحجاج ومن ثم سكة قطار الحجاز..لكن مايزال مجتمع العلا حتى يومنا هذا يحتفظ ويتوارث بثبات ودقة امتداداته الجذرية المسيجة من الناحية البيئية ومن الناحية الثقافية كابرا عن كابر بسياج حصين متين..كان ومايزال عصيا على الاختراق والإخلال. من جهة أخرى،وفي سياق متصل..مجتمع العلا الحضري الريفي القديم كتركيبة سكانية ماتزال باقية حتى اليوم بكامل خطوطها وخيوطها النسيجية مكون من 15 عشيرة بتقسيمتيه (عشائر الحلف) و(عشائر الشقيق) حيث للحلف 9 عشائر وللشقيق 6 عشائر..ربطت بينهم أواصر القربى والنسب والعمومة والخؤولة والانصهار شبه الكلي ولايفصل المكونين عن بعضهما إلا حيز جغرافي جبلي لايكاد يرى بشكل دقيق فاصل إلا من خلال صورة ملتقطة من الجو. لذلك يعرف للغريب عن العلا بالإشارة إليه من خلال الامتداد الجبلي الشرقي الغربي لمايسمى جبل أم ناصر. و هما أي المكونين الاجتماعيين(الحلف والشقيق) لمن لايعرف التأصيل العلمي لتكوينهما على سبيل القياس للإدراك والمعرفة أشبه بمكوني ( الشمل ) في التكوينات الاجتماعية القبلية..حيث نجد أكثر من قبيلة أوعشيرة تنضوي تحت لواء مايسمى ب(الشمل) يقابله ويماثله مكون شمل آخر أو أكثر من شمل في ذات القبيلة كلاهما أبناء عمومة تحت مظلة القبيلة الأكبر(القبيلة الأم) ولكل شمل ديار ومراعي خاصة بها ويجمع بينهما التاريخ والحاضر ووشائج المحبة والتلاحم وأواصر القربى. وهكذا هو الشأن الاجتماعي للتركيبة السكانية الريفية القديمة الممتدة لأهالي العلا بين المكونين(الحلف،والشقيق) وبمنتهى البساطة وقمة الوعي بكنههما. لذلك كما ذكرت آنفا احتفال أهالي العلا ظهيرة كل 22 ديسمبر رغم بساطته واختزاله عمليا في ترقب ورصد وقت دخول مربعانية الشتاء لكنه من الناحية الفكرية وأثرها وتأثيرها وأبعادها على مجتمع العلا أعمق بكثير من ظاهر الحدث للأسباب التي مررت عليها هنا بعجالة في هذا العرض الطفيف والتوثيق المختصر. فاللهم أدم نعمة المحبة والتواد والتراحم والتلاحم بين أهالي العلا بكل مكوناتهم القديمة والحديثة..وكذلك على كل من يمشي فوق حبات تراب هذا الوطن العظيم وينعم بخيراته وأمنه وأمانه ورغد عيشه من مواطنين ومقيمين وزوارا هفت أفئدتهم إلى كل بقعة مباركة من أرض وطن الخير والعطاء والنماء فنحن بحمد الله في زحام من النعم يجب أن نحمد الله عليها حمدا كثيرا.

مشاركة :