«شتاء الطنطورة»، اسم بات يتردد كثيراً في الفترة الأخيرة بين السعوديين، بعدما أخذت الهيئة الملكية لمحافظة العلا على عاتقها هذا العام كشف الأسرار التاريخية والطبيعية للعلا، تلك الجوهرة المكنونة التي ظلت في طي الكتمان لآلاف السنين، فمهرجان شتاء الطنطورة ليس احتفالاً بدخول فصل الشتاء فحسب، بل هو استدعاء للذاكرة، ودعوة لسبر أغوار التاريخ والاستلهام منه، وفرصة لمحبي الطبيعة وعُشّاق الجمال والفنون للنهل من معين المنطقة التي شهدت ارتفاع واندثار حضارات عديدة عبر آلاف السنين وبقيت آثارها شاهدة عليها. والطنطورة هي ساعة شمسية هرمية الشكل، ترتفع على سقف أحد الأبنية في وسط بلدة العلا القديمة كجزء أصيل من أبنيتها، ويعتمد أهالي المدينة منذ مئات السنين عليها لمعرفة الوقت خلال اليوم، وكذلك فصول السنة. أما فصل الشتاء فتعلن الطنطورة عن دخوله في 22 كانون الأول (ديسمبر) من كل عام، عندما يصل ظلها إلى العلامة المقابلة لها والموجودة على الأرض، إذ يصل إليها الظل مرة في السنة ويتراجع بعدها ليشكل أقصر يوم وأطول ليلة في السنة، في احتفال بهيج يجمع أهالي العلا من مختلف الأعمار؛ ومن هنا جاء اسم المهرجان. أمّا طبيعة العلا، فهي واحدة من أعظم عجائب الدنيا التي بقيت طي الكتمان، يُحيط بها الجمال الطبيعي والآثار التاريخية التي تشهد على عظمة الإنسان وتطوره عبر التاريخ، والكيفية التي تمكنت من خلالها الحضارات القديمة من التأقلم مع طبيعة المنطقة وابتكار تقنيات الزراعة المختلفة لمحاربة ظروف الصحراء القاسية. وتُعد العلا واحدة من أفضل المواقع التراثية المحفوظة في العالم، وستقدم خلال المهرجان دروساً في التاريخ نستلهم منها العبر ونقتبس منها تفاصيل رحلة تطور الإنسان. ومن أهم المناطق التي يمكن لزوار العلا مشاهدتها مدائن صالح، والتي تعرف أيضا باسم الحِجْر، وقد كانت موطن الأنباط، وهناك فرصة للتعرف إلى مملكة دادان ذات الشهرة العالمية، ومقابر الأسود المكتشفة في الخريبة في دادان القديمة، وكذلك بلدة العلا القديمة، تلك المدينة الاستثنائية بحواريها وأزقتها المتقاربة، ومنازلها التاريخية المبنية من الطوب اللبن على قواعد صخرية. وتُقدّم البلدة القديمة لمحة مشوقة عن شكل مجتمع العلا قديما، وتُتيح فرصة تخيّل شكل الحياة والنشاط المجتمعي الذي كان في يوم من الأيام يُمثّل روح البلدة العتيقة. أما موقع حرة عويرض فيضم عجائب طبيعية، وزيارته تُشبه الهبوط على كوكب آخر، حيث نشأت هذه الأراضي الصخرية البازلتية بفعل تدفقات الحمم البركانية. كما يوجد العديد من المواقع التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ والتي تحتوي على قطع أثرية وهياكل حجرية ونقوش ورسومات محفورة على الصخر. وهناك جبل عكمة الذي يعدّ أضخم مكتبة تاريخية مفتوحة في المملكة العربية السعودية، ويضم المئات من النقوش الأثرية المنحوتة على متونه الصخرية؛ بالإضافة إلى جبل الفيل، وهو أحد أكثر المواقع شهرة في وادي العلا، وهو عبارة عن صخرة عملاقة من الحجر الرملي الطبيعي تُشبه فيلا يُلامس خرطومه الأرض. ويوفر المهرجان فرصة لزواره للاستمتاع بمشاهدة عروض الضوء المبهرة التي تروي تاريخ ملتقى الحضارات في العلا، وإمكان استكشاف سوق التوابل والبخور، المليئة بالحرف اليدوية المحلية، وفنون الأداء، والموسيقى في جو من السحر والخيال. أما المهتمون بالفن المعاصر، فيمكنهم الانتقال إلى درب النحت الذي يعرض مجموعة من القطع الفنية، ولقاء مجموعة من الفنانين المبدعين الذين قاموا بعملها. كذلك يوفر المهرجان فرصة استكشاف الحرف اليدوية المحلية المعروضة والمشاركة في ورش عمل إبداعية، أو الذهاب في جولات زراعية، حيث يمكنهم مع عائلاتهم قطف الفواكه والخضروات واكتساب المعرفة حول تاريخ الزراعة في جميع أنحاء المنطقة. شتاء الطنطورة ليس مجرد مهرجان فني أو ترفيهي، بل هو مهرجان لكل الحواس، وفرصة للسفر عبر التاريخ واكتساب المعرفة، والاستمتاع بسحر الضوء والفن ورحلة تبقى في الذاكرة إل الأبد.
مشاركة :