شهدت الندوة التي أقامها مركز الدراسات الثقافية بالتعاون مع منتدى محمد عفيفي مطر، والتي تمحورت تحت عنوان "نجيب محفوظ قراءة متجددة" مناقشة عدد مهم من الدراسات والرؤى النقدية في محاولة جادة لكشف المزيد من تجليات إبداع نجيب محفوظ، حيث تم تناول البعد الفلسفي في أعماله والتنوع الثقافي والعجائبي وترجمة أعماله إلى العبرية وسياق ما بعد الاستعمار. وقد جاءت الندوة التي شارك فيها 14 ناقدا وباحثا أكاديميا ومبدعا في جلستين الأولى أدارها الشاعر محمد حربي ومائدة مستديرة أدارتها وشاركت فيها الناقدة د. مروة مختار. في دراستها "البُعد الفلسفي في كتابات نجيب محفوظ.. تحليل سوسيوثقافي حول علاقة الأدب والفلسفة" التي حللت فيها بعض أعمال محفوظ الروائية والقصصية القصيرة، قالت د. أمل حسن إن نجيب محفوظ درس الفلسفة وكتب العديد من المقالات الفلسفية والأدبية، والقاريء لمقالاته يلاحظ أنه كان محبًا للفلسفة، متعمقًا فيها، ورغم أنه لم ينغمس في الفلسفة وحدها إلا أنه حين تفرغ للإبداع الأدبي، ظهر تأثره جليًا بالفكر الفلسفي. ويعتقد الباحثون أن ريادة محفوظ للفن الروائي وإبداعه ترجع إلى الإدراك الواعي والعميق لطبيعة المجتمع الذي نبع منه إبداعه، مع نظرة ذات بُعد فلسفي خاص. مما جعل بعض الأقلام تراه منتميًا إلى المدرسة الطبيعية الواقعية، التي قادها أدباء فرنسا: إميل زولا، وجوستاف فلوبير، وهنري بلزاك. وفي تناولها لسيميائية العنوان والفضاء الروائي والمعماري في رواية "رحلة ابن فطومة" لنجيب محفوظ، رأت الناقدة زينب العسال أن رواية نجيب محفوظ "رحلة ابن فطومة" تعتمد على الفضاء المدينى الذى يتغير مع ترحال السارد قنديل محمد العنابى، من دار إلى دار". ظاهرة أدبية فنية علامة فارقة في تاريخ الرواية العربية وجاءت مقاربة العسال النقدية للنص السردي، عبر المنهج السيميائي، الذي حقق طفرة نوعية في الدرس النقدي بمنظوره النظري والتطبيقي، فدراسات سيمياء الفضاء النصي وعلاقته بالفضاء المعماري للنص مجلى مهم للمؤسسات البحثية الأكاديمية في المغرب العربي. ويعد الملتقى الدولى التاسع "السيمياء والنص الأدبي"، أحد أهم تجليات هذا الاهتمام. وأضافت "اخترت رواية (رحلة ابن فطومة) لغياب الدراسات التي تناولتها، وفق المنهج السيميائي. إن فضاء النص مترع بالعلامات والعلاقات المهاجرة التي تثير علاقات متشابكة ومتقاطعة، دالة وموحية، تعطي زخمًا إيحائيًا، لا يستند على ما يظهر على السطح، ثمة حقب تاريخية ينفتح عليها النص السردي، وحقب تاريخية غير محددة بوضوح، وإن كانت تؤكد على أن السارد ينتمي للعصور الوسطى، يمارس نشاطًا عرفه العرب، متمثلًا في رحلات ابن جبير، الإدريسي، المسعودي، ابن الغرناطي، ابن بطوطة، وغيرهم، فالسارد يخرج من مكان مغلق نفسيًا عبر تجربة شخصية خاصة، تؤسس بين المحدود واللامحدود، المأهول والموحش، لينتج قاعدة أساسية في التأويل على كافة المستويات التي تثيرها الرواية. وأوضحت العسال أن الفضاء المعماري للنص يتقاطع مع فضاء النص السردي المحكي، هي الطريقة التي استخدمها محفوظ في الرواية عبر البنى التشكيلية والبصرية، والحروف والخطوط " الغلاف والهوامش، علامات الترقيم والمقدمات والهوامش إن وجدت. كما اتخذ النص شكلًا تراثيًا هو الرحلة، وهو شكل اختلفت حوله الآراء، إن كان ينتمي إلى الأدب، أم إلى نوع آخر من فنون الكتابة، رغم تنوع إبداع محفوظ بداية من الرواية التاريخية، مرورًا برواية الواقعية الطبيعية، والرمزية، ثم كتابة القصة القصيرة، والمسرحيات، فـ" رحلة ابن فطومة" هي الرواية الوحيدة في مجموع أعماله التي اتخذت هذا الشكل. وأكد د. نجيب عثمان أيوب أستاذ الأدب العربي المساعد بآداب حلوان في قراءته "نجيب محفوظ علامة فارقة في تاريخ الرواية العربية والسامية" أن محفوظ ظاهرة أدبية فنية نفت مزاعم وأثبتت أخرى، كما كان حجة دافعت بواقعية فعلية عن العرب والجنس السامي عامة؛ حيث كانت أعماله الروائية التي حصدت استحقاق جائزة نوبل في الآداب خير شاهد على أن الجنس السامي والعرب تحديدا، لم يكونوا بمنأى عن أقرانهم من الآريين الذين زعمت بعض الدعوات العنصرية، احتكارهم الخيال الروائي والأداء الملحمي دون غيرهم، منذ فجر التاريخ، وأنكرته على أقرانهم الساميين من العرب والإسرائيليين الذين حرموا الصبغة الملحمية في آدابهم لفرط اهتمامهم بالغنائية فيها، وهذا الزعم يتجافى عن الصواب والحقيقة العلمية؛ حيث لا فروق فطرية بين شعوب العالم، فكل البشر سواء فيما وهبوا من قدرات نظرية وعقلية وانفعالية ومهارية؛ فلم يكن العرب قد عرفوا القصة بمعناها الفني الحديث الذي بشر به أدجار آلان بو بنظريته الحديثة عن الوحدة في القصة، إلا بعد أن سافرت البعثات العربية للغرب وعودة محمد حسين هيكل، ليكتب الرواية العربية الأولى التي نشرت عام 1914، وكتب عنوانها (زينب. أول رواية عربية يكتبها فلاح مصر)، ولم تلبث الرواية العربية طويلا حتى نافست أختها الغربية ذات الإرث اليوناني الملحمي وصاحبة النهضة الأوروبية المعاصرة، واقتنصت منها جائزة نوبل في الآداب، عام 1988، كان ذلك لأعمال الروائي العربي نجيب محفوظ، بأعماله الروائية: (الثلاثية ـ ثرثرة فوق النيل ـ دنيا الله ـ أولاد حارتنا)؛ لتكون برهانا عمليا على بطلان الادعاء العنصري المذكور سلفا. وقال الروائي والناقد السينمائي محمود قاسم حول علاقة نجيب محفوظ بالمخرجين: لم يتهافت المخرجون في السينما المصرية، وايضا في الدراما الإذاعية والتلفزيونية، مثلما حدث مع أدب نجيب محفوظ، وأيضا أحسان عبدالقدوس، وذلك بسبب عبقربة المكان والموضوع، ومصائر الأشخاص، ورغم أن هذا التهافت قد تأخر بعض الوقت، برغم أن محفوظ نفسه لم يهتم بالمرة بتحويل كتاباته إلى نصوص سينمائية ودرامية. بدأت الحكاية عام 1960 من خلال رواية "بداية ونهاية" التي أخرجها صلاح أبو سيف، الذي بدا كأنه اكتشف بئرا مملوءة بالخصوبة، وكأنما فتح مغارة علي بابا حيث تهافت المخرجون إلى القيمة الأدبية والسينمائية للكاتب. وكانت التجربة التالية مباشرة مع كمال الشيخ علم 1962 وهو يقدم "اللص الكلاب" ليتوقف تماما عن التعامل مع القصص البوليسية ليقدم الجريمة المصرية من منظور جديد تماما، وكان المخرج التالي هو حسن الأمام الذي انتبه هو أيضا إلى أهمية القصص الأدبية المصرية يصنع منها وجبات يشاهدها الناس في أطباق جيدة الطهي، فقدم "زقاق المدق" وتبعه بالثلاثية علي مدار تسع سنوات، وهي "بين القصرين" و"1964 و"قصر الشوق" 1967 ثم "السكرية" 1973، و"أميرة حبي أنا"عام 1975 وكان الفيلم الأخير في حياته كمخرج هو "عصر الحب" 1986، ما يعني أن هذا الجيل القديم كان يعود إلى روايات الكاتب، ويقوم يتقديمها، فصلاح أبو سيف هو الذي قدم "القاهرة 30" عام 1966، وكمال الشيخ الذي قدم "ميرامار" عام 1969، فتح لأبناء الجيل الجديد آنذاك للعمل بشكل مكثف في أفلام مأخوذة عن روايات الكاتب ابتداء بـ "ثرثرة فوق النيل" 1971، و"الحب فوق المطر" 1975، أما علي بدرخان فأخرج "الكرنك" عام 1975، ثم "أهل القمة " 1980، ويليه "الجوع" 1987، ويدخل عاطف الطيب إلى الساحة بفيلميه "الحب فوق هضبة الهرم" 1986، و"قلب الليل" 1989، وهكذا، ورغم أن اسم نجيب محفوط دخل قائمة الممنوعين من دخول البلاد العربية، فإن المخرجين من الأجيال المتتابعة يعملون في نصوص رواية "الحرافيش" منهم نيازي مصطفي، وحسام الدين مصطفي،، وأشرف فهمي، وأحمد ياسين، وكذا تشربت أعمال الكاتب بنكهات مختلفة، ومن مدارس واتجاهات الإخراج السينمائي في مصر. وعلى جانب آخر فإن كتاب السيناريو تهافتوا على كتابة أعمال محفوظ وعلى رأسهم مصطفى محرم، وأحمد صالح، وعصام الجمبلاطي، وحيد حامد ومحسن زايد، ورغم ذلك لم يفكر محفوظ أن يقول رأيا في هذه الأفلام، أو يعلن عن رغبته في تحويل أي من رواياته إلى نص سينمائي. وقرأت الناقدة د. مروة مختار كتاب الكاتب محمد شعير الصادر أخيرا بعنوان "أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة" حيث رأت أن شعير يمزج في كتابه بحساسية بالغة بين لغة الكاميرا وكتابة السيناريو، فالسيناريو بين اتجاهات كبرى تسود المجتمع المصرى آنذاك سياسية وفكرية مدنية وإسلامية، وكلها متواصلة ومتقاطعة، يحاول شعير أن يفك خيوطها عبر الوثائق التى اعتمد عليها وعبر استنتاجاته، أما الكاميرا فيستخدمها تارة بشكل بانورامي يغطي ملامح وطننا العربي سياسيًا وثقافيًا وأخرى يركزها على مصر فقط، تارة يستخدم زووم الكاميرا على موقف أو شخصية ساردا تفاصيلها من زوايا متباينة وتارة يكتفى برصدها فقط. وأكدت أن شعير يجيد بكاميرته تقنية الزووم/ التقريب ليضعنا داخل الأجواء "مكان، زمان، أشخاص" وقالت "في الفصل الأول المعنون بتاريخ 21 سبتمبر1959 بداية نشر رواية "أولاد حارتنا" في الأهرام كان الشيوعيون في السجن والحملات الإعلامية تتواصل ضدهم وظهرت سرقة فيلا شوقى أمير الشعراء، والصحف تقود الهجوم ضد عدد من قادة "ثورة الشواف"، ومنح المجلس الأعلى للفنون والآداب جائزة القصة إلى ثلاثة كتاب منهم أركان حرب عبدالرحيم حجاج والصحافة تحتفى بنصه رغم أنه الأضعف، بالإضافة إلى امتناع كبار الكتاب عن المشاركة في المسابقة، ما أشبه اليوم بالبارحة فقد ذكرتني كتابة شعير بجائزة التفوق في الرواية لهذا العام". نجيب محفوظ حجة دافعت بواقعية فعلية عن العرب والجنس السامي وتساءل د. خالد عبدالغني في قراءته لأحلام فترة النقاهة "كيف جمع نجيب محفوظ بين العجائبي والإستبصار بالمشكلات الواقعية" وقال "إن مفهوم الحكمة عند الأديب الكبير نجيب محفوظ يعيد تكوين التوجهات الفلسفية الإنسانية بشكل يلتبس فيه المدلول الثقافي الكامن بالظواهر الافتراضية الفريدة والشخصيات كعلامات غير قابلة للاختزال، ولذا فهناك ثراء في النص المحفوظي لدرجة قابليته للكثير من التأويلات الممكنة. ولذلك فحين تحاول الوقوف في رحاب نجيب محفوظ، وأمام إبداع "أحلام فترة النقاهة" كونه شكلاً جديداً من أشكال السرد الأدبي، وإعجازاً آخراً يضاف لنجيب محفوظ فلا بد أن تقلق، وهذا ما عشته منذ أن بدأت أفكر في هذا الوقوف في تلك الرحاب وبخاصة إن هذا الشكل التجريبي العجائبي للكتابة السردية الذي يبدو وكأنه عفوي ينطق على عمل مركب يقوم على النظام والأمانة المطلقة ويحرر الموضوع والشخصية الحدث / الفعل الإبداعي من آنية اللحظة وصدورها إلى آفاق المطلق ومداه اللانهائي واللاشخصي، والسرد هنا لا يسير في خط مستقيم بل هو أشبه بارتماء الأمواج على الشاطئ وانسحابها عنه، ويثمر هذا التكنيك نصاً متوهجاً محموماً ولكنه مكتوب بدقة ورهافة وهو في النهاية استكشاف وتأويل للمسكوت عنه والمضمر لأسرار الوجود والزمن والموت والعدم وفهم البحث عن تراجيديا الإنسان من المهد إلى اللحد". وفي شهادته "ومازال العم نجيب يعلمنا" قال الناقد د. يسري عبدالغني: العم نجيب محفوظ علمنا كثيرا ومازال يعلمنا، وسيظل يعلم الأجيال التي ستأتي بعدنا، وهو من خلال حوارات أبطال روايته "الحرافيش" يقول لنا: من يحمل الماضي تتعثر خطاه"، "النجاح لا يوفر دائما السعادة"، "الحزن كالوباء يوجب العزلة"، "لا توجد الكراهية إلا بين الأخوة والأخوات"، "ألا ترى قاتلا يمرح وبريئا يتعذب؟"، "من الهرب ما هو مقاومة"، "لن نمل انتظار العدل"، "لا قيمة لبريق في هذه الحياة بالقياس إلى طهارة النفس وحب الناس وسماع الأناشيد". ومن فينا ينسى أبدا ما كتبه كاتبنا الكبير في نهاية رائعته هذه: قال له قلبه لا تجزع فقد يفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة. كما لن أنسى مع جيلي أبدا حزننا وغضبنا يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994. اليوم الذي تعرض فيه كاتبنا الكبير لحادث رهيب – طعنة في رقبته وكان أمام منزله (172 شارع النيل – العجوزة) وكانت الساعة الخامسة مساء. وبالطبع يجب أن نتذكر دائما ما جرى على امتداد السنين من محاولات متعددة لتكفيره منذ أن نشرت روايته "أولاد حارتنا" 1959. وبسبب هذا الحادث الأليم توقفت يده اليمنى عن إمساك القلم والكتابة بها (وهو في الـ 83 من عمره) ليدخل بعد ذلك نجيب محفوظ وبكامل إرادته فيما يمكن وصفه بـ "بداية جديدة"، وما أكثر البدايات في حياته، في تدريب يومي شاركه فيه د. يحيى الرخاوي، وذلك من أجل الكتابة من جديد.. بيده. إنها تجربة إرادة وإصرار وعزيمة ودأب ليس غريبا عن نجيب محفوظ نقرأ عنها شرحا وتفصيلا في نص كتبه د. الرخاوي تحت عنوان "نجيب محفوظ : آخر البدايات".
مشاركة :