النساء على خطى الرجال في معاقرة الكحول

  • 12/23/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

بدأت الدراسات المهتمة بانتشار الكحول تأخذ في السنوات الأخيرة منحى جديدا يضع في اعتباراته المرأة بوصفها وصلت للمساواة مع الرجال في شرب الكحول وتفوقت عليهم في المعاناة من مضارها، لا سيما مع تنامي السوق الاستهلاكية المواجهة لتأنيث مشروباتها عبر أصناف كحولية خاصة بالنساء، ورمى هذا التغيير التدريجي في علاقة المرأة بالكحول بظلاله على المجتمعات العربية وصار من القضايا المستجدة التي تحاول البرامج الاجتماعية التلفزيونية والمسلسلات طرحها ومعالجتها، وسط ذهول مجتمعي بين رافض ومؤيد. “اسقينيها بأبي أنت وأمي، املأ الكأس ابتساما وغراما/ فلقد نام الندامى والخزامى، بأبي أنت وأمي اسقينيها/ لا لتجلو الهم عني/ أنت همي/غني واسكب غناك/ ولماك/في فمي، صبَّها مِنْ شفتيكَ في شفتيّا”، بهذه الكلمات غنت أسمهان لكؤوس الخمر، فيما قالت عنها العراقية سليمة مراد “اليوم الدنيا زهت واحنا بفرح يا ناس… القعدة وياكم حلت يالله ندير الكاس”، أما التونسية حبيبة مسيكة فتحضر بأغنية “دير المدام يا ساقي واسقيني، زرني الحبيب نقيم له حضرة، من كل طيب والكؤوس من خمرة/ تحت الشجور يحلى شرب الكأس”. يعود تاريخ هذه الأغاني إلى بدايات القرن العشرين، حيث لم يكن دارجا، على الأقل في الأماكن العامة، في المجتمعات العربية والغربية أيضا، أن تعاقر النساء الكحول، على عكس اليوم، حيث يعد شرب الكحول بكل أصنافها أمرا عاديا في المجتمعات الغربية، في “سلوك” تسلل إلى المجتمعات العربية أيضا، وسط جدل وآراء متناقضة حول هذه الظاهرة التي تختلف أسبابها من طبقة اجتماعية إلى أخرى، ومن فئة عمرية إلى أخرى، حيث الشباب، من الفتيان والفتيات، اليوم يقبلون بشكل “عادي” على شرب الخمر في الملاهي الليلية وفي السهرات، خلافا للأجيال الأكبر سنا، التي ترى في شرب الرجل للكحول أمرا عاديا في حين تستهجن صورة المرأة الجالسة في حانة أو في مطعم وتشرب الكحول. وبين الديني والمجتمعي تتداخل التقييمات التي أصبحت تستند أكثر على البعد العلمي حيث تشير الدراسات إلى أن لشرب الكحول مضار كثيرة، فيما يرد البعض بأن الأمر يختلف بين الشرب “المعتدل” وبين الإدمان وأن التركيز يجب أن يكون على الظاهرة الأخيرة وخطورتها، باعتبار أنها ظاهرة اجتماعية سيئة، فأن ينافس نصف المجتمع النصف الآخر على عادته السيئة له تداعيات خطيرة على صحة المرأة والأسرة والمجتمع عموما، كما أنه يخلق في المجتمعات العربية فوضى اجتماعية ويزيد من حالات التحرش بالنساء والتصادم الجندري. ومن أحدث الأمثلة على ذلك ما حدث من جدل في تونس، المعروفة بأنها من أكثر الدول العربية انفتاحا، حين قالت ممثلة تونسية في برنامج تلفزيوني، حضره أيضا شيخ سلفي، إن الكحول “تعلمك ما معنى أن تحب غيرك.. تعلمك أن تتقاسم مع غيرك”.وكالعادة في مثل هذه المواقف، عجّ الفيسبوك بالآراء والأفكار المتداخلة، بين مؤيدين قلائل ورافضين كثر، ومع ذلك لا يسقط من الأذهان أن الكحول تؤثث مجالس الأثرياء نساء ورجالا دون فرق. غير أن اللافت اليوم أن نساء من طبقات معدمة أصبحن يستهلكن الكحول بأنواعها أسوة بالرجال ويتقاسمن معهم مخاطرها الصحية وأعباءها المادية. وتعتبر المرأة العربية التي تشرب الكحول شخصا “سيئا” بسبب نظرة المجتمعات المحافظة والأعراف الدينية، إلا أن هذا الوضع بدأ يتغير شيئا فشيئا، حيث أصبح بإمكان المرأة في بعض المدن الكبرى ارتياد الحانات أو شراء الكحول من المحلات العمومية. وكان تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية حول استهلاك المواد الكحولية في الوطن العربي عام 2017، بمناسبة اليوم العالمي للتوقي من الاستهلاك المفرط للمواد الكحولية، كشف أن تونس في صدارة الدول العربية الأكثر استهلاكا للكحول والخامسة عالميا، لا سيما في السنوات الأخيرة التي تلت اندلاع ثورة يناير 2011. ومثّل تزايد عدد التونسيات المستهلكات للكحول، ليس فقط كسرا للاحتكار الذكوري لهذه العادة السيئة، بل ومهربا للكثيرات من مشكلاتهن الاجتماعية وصعوبة ظروفهن المادية، وإن كان لا توجد نسب دقيقة تؤكد ارتفاع نسبة المستهلكات لا سيما من المنتميات للطبقات المتوسطة والفقيرة عدا بعض الريبورتاجات المصورة والمحملة على موقع يوتيوب، علما وأنه تم حذف الكثير منها في الفترة الأخيرة، إلى جانب صور وفيديوهات تم تداولها على نطاق واسع بين نشطاء موقع فيسبوك تظهر تقاسم عائلات فقيرة بمن فيها النساء للكحول بالتركيز على أنها من النوع الرخيص نظرا لقلة يد المستهلكين. وصرح حسن الزرقوني مدير سيغما كونساي (مؤسسة تعنى بسبر الآراء)، العام الماضي، أن ما بين 5 و10 بالمئة‏ من التونسيات يستهلكن المشروبات الكحولية بشكل منتظم، وهي نسبة مرتفعة مقارنة بباقي الدول العربية.على الرغم من عدم وجود إحصائيات واضحة حول عدد مستهلكات الكحول في تونس، إلا أننا نجد أن جل القنوات التلفزيونية التونسية لا سيما الخاصة منها ركزت على الظاهرة في أغلب مسلسلاتها. وترى بعض التقارير الإعلامية أن هذا التوظيف يحط من صورة المرأة التونسية ومن صورة الرجل أيضا لما تحمله المشاهد من مغالاة وإفراط في تلميع صورة منتج محرم دينيا وأخلاقيا، ومغالطة لأن نسبة التونسيات المستهلكات للكحول لم تسجل بعد أرقاما تستدعي هذا التوظيف. وأشارت هذه التقارير إلى ما يحمله ذلك من تهديد لسلوكيات شريحة كبيرة من الشباب ذكورا وإناثا بسبب انبهارهم بالأبطال وتأثرهم الشديد بتقليدهم؛ فمثلا تمرير مشهد لطالبتين تحتسيان الكحول قبل الذهاب إلى المعهد في مسلسل “فلاش باك” أو مسلسل “مكتوب” الذي عالج قضية محاولة شابة جميلة وصديقتها تجربة حياة الأغنياء بالسهر في الحانات والمراقص مما أوقعها في براثن الخطيئة أو تجاوز “أولاد مفيدة” لكل الخطوط الحمراء في مشاهد احتساء كحول ومخدرات جمعتهم بفتيات خصوصا وأنهم ينتمون للطبقة الفقيرة، يشجع المراهقين على التشبه بهم، خصوصا وأن أغلب المستهلكين والمستهلكات أكدوا أن الأمر يبدأ بالتجربة وينتهي بالتعود فالإدمان. ولئن كانت نسبة المستهلكات قليلة فهذا لا يعني أن توجيه المخرجين التونسيين لعدسات كاميراتهم نحو الظاهرة يعد جريرة تشجع على اتباع هذه الفئة القليلة، بل محاولة للكشف والعلاج وعلى بعض التونسيين تجاوز الصدمة وتقبل حقيقة أن المرأة التونسية تحتل موقعا بين مستهلكي الكحول سواء بالحانات أو خارجها، وأن مشهد معاقرة المرأة للكحول ليس مجرد صورة ولجت إلى تونس من بوابة المسلسلات بل هو واقع إن لم تتم معالجته فهو في طريقه للتزايد بكل ما يحمله من تابعات على الصحة والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، خصوصا في ظل عدم إنكار الشباب والشابات داخل معاهدهم لتجربة المخدرات والتدخين بوصفها آفات قريبة من آفة احتساء الكحول.يرى الدكتور في علم الاجتماع الطيب الطويلي أن هذه الإحصائيات الأخيرة “حول ارتفاع عدد مستهلكات الكحول في تونس بتقديري يندرج في إطار الإحصائيات حسب الطلب أو على المقاس”. وأوضح الطويلي في حديثه لـ”العرب” أن “تناول المسكرات بأنواعها في الأوساط النسائية موجود في مختلف المجتمعات ومختلف الأزمنة وإن تختلف أسبابه ورمزيته وتختلف المجاهرة به حسب المجتمع، ففي الأوساط الراقية يكون أحيانا إيحاء أرستقراطيا ومكملا لمشهدية البذخ، ويكون أحيانا في الأوساط الفقيرة ذا إيحاء بروليتاري ومكملا لمشهدية الرفض والثورية، حيث تحاول بعض النسوة التعبير عن خروجهن عن الواقع المجتمعي المزري الذي وضعهن على التخوم والهوامش، ويحاولن بذلك إيجاد واقع جديد لهن”. وأضاف “حتى وإن وضعنا فرضية أن مستهلكات الكحول التونسيات قد ازداد عددهن وان مرتادات الحانات قد تزايدن فهذا يشير إلى أن المرأة التونسية ليست بحاجة للتخفي خلف نقاب الفضيلة الوهمي وهي إذا ما أرادت أن تقوم بشيء فهي تقوم به بكل ثقة في نفسها وفي مجتمعها”. وتعود أسباب معاقرة الكحول لدى شريحة من النساء التونسيات إلى ظروفهن الاجتماعية الصعبة، من بينها التفكك الأسري الذي يضطر بعض الفتيات للخروج إلى الشارع. وقال شيكار ساكسينا مدير إدارة الصحة العقلية وتعاطي المخدرات في منظمة الصحة العالمية، إنّ “الفقراء بشكل عام هم الأكثر تأثرا بالأضرار الاجتماعية والصحية للكحوليات”، مضيفا “هم غالبا يفتقدون الرعاية الصحية الجيدة ولا يجدون حماية كافية من عائلات فاعلة أو شبكات مجتمعية”. وتشير التقديرات إلى أن حوالي 30 بالمئة من النساء في جميع أنحاء العالم يشربن الكحول، حيث تشرب امرأة من كل 20 أنثى الكحول بكميات كبيرة نسبيا. وقالت منظمة الصحة العالمية في “تقرير الحالة العالمي عن الكحول والصحة لعام 2018” إن ما يقدر بنحو 237 مليون رجل و46 مليون امرأة على مستوى العالم يشربون الكحول بشكل مفرط أو على نحو ضار.وأشار فلاديمير بوزنياك العضو في إدارة سوء تعاطي المواد في منظمة الصحة العالمية إلى أنه “بوسع كل الدول بذل المزيد من الجهد لخفض التكلفة الصحية والاجتماعية للاستخدام الضار للكحول”. وأضاف أن من بين الإجراءات التي أثبتت كفاءتها وكانت فعالة من حيث التكلفة زيادة الضرائب على الكحوليات وتقييد الدعاية والوصول السهل إليها. ويقابل شرب المرأة للكحول بالرفض في مختلف المجتمعات العربية والإسلامية، وتكون الأحكام الاجتماعية عليها قاسية جدا، على عكس الأمر بالنسبة إلى الرجل، إذ لا ينتقص ذلك من أخلاقه شيئا. وبحسب دراسة أعدتها إدارة الطب المدرسي والجامعي، تبين أن ظاهرة شرب الكحول تشعبت في تونس حيث لم تعد مقتصرة على الرجال فقط، بل صارت تشمل النساء اللواتي أصبحن متواجدات في الحانات. ويعود تواجد التونسيات وخصوصا المراهقات منهن بالحانات والمطاعم الراقية إلى أحد أمرين إما كدليل رفاه و”برستيج” ناجم عن حياة الثراء وإما تفضيلا لشرب الكحول بدل العصائر والمشروبات الغازية عند الخروج للسهر ضمن شلة من الأصدقاء والصديقات. إلا أن هناك أبحاثا أجريت مؤخرا أظهرت أن معظم النساء يحتسين الكحول للتغلب على “الألم العاطفي”، في حين أن شرب الرجال للكحول مرتبط بشكل أكبر بالضغوط الاجتماعية. ويرى الخبراء أنه بالنظر إلى هذه الاختلافات في الدوافع التي تحمل النساء على احتساء الكحول والعوامل البيولوجية التي تجعلهن أكثر تأثرا بالمسكرات ولا سيما العلاقة الوثيقة بين إدمان الكحول وبين التعرض للصدمات، فإن احتياجات النساء تستدعي الدراسة عند البحث عن سبل للعلاج من إدمان الكحوليات. وأكدوا أنه مضى العهد الذي كان الباحثون فيه يجرون الأبحاث عن إدمان المشروبات الكحولية على الرجال فقط ويفترضون أن نتائجها ستنطبق حتما على النساء، نظرا لأن الكحول كانت تعتبر من “المشكلات الذكورية”، وعليه لم يهتم أحد بدرس أثر الإفراط في شرب الكحول على المرأة.أثبتت الدراسات أن النساء اللواتي يسرفن في احتساء المشروبات الكحولية أسرع تأثرا بأضرار هذه المشروبات على الكبد والقلب والأعصاب، غير أن هذه الأضرار الصحية ليست ناجمة عن الإفراط في الشرب فحسب، وإنما عن مسألة اختلاف تأثير الكحول بين الجنسين. كما أظهرت مسوحات أدمغة مدمني الكحوليات أن أدمغة النساء بدت أكثر تأثرا بالمسكرات من أدمغة الرجال. واقترنت معاقرة الكحول بالرجال، وترسخت هذه الصورة النمطية في الأذهان وجسدتها الكثير من الأفلام والمسلسلات، وفقا لهيئة الإذاعة البريطانية، مشيرة إلى أن دراسة عن عادات استهلاك الكحول أوضحت أن النساء اللائي ولدن في الفترة ما بين 1991 و2000 يستهلكن نفس الكميات من الكحول التي يستهلكها نظرائهن من الرجال، ولفتت أيضا إلى أن معدلات استهلاك النساء للكحول آخذة في الارتفاع وربما تتخطى الرجال قريبا. وبالتوازي مع زيادة استهلاك النساء للكحول، زادت معاناتهن من أضرارها، إذ كشفت إحصاءات المركز الأميركي الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها عن ارتفاع معدلات الوفاة الناتجة عن الإصابة بتليف الكبد، في الفترة بين عام 2000 و2015، بين النساء في عمر 45 إلى 64 عاما بنسبة 57 بالمئة، بينما لم ترتفع لدى نظرائهن من الرجال إلا بنسبة 21 بالمئة فقط.

مشاركة :