القاهرة: «الخليج» يحتل الشيخ الرئيس ابن سينا، مكانة سامية في تاريخ الفكر والطب والفلسفة، فهو من أصحاب الثقافة العالية ومن ذوي المواهب النادرة والعبقرية. وعلى الرغم من عدم امتداد حياته، فإنها كانت تفيض نشاطاً وحيوية وتحفل بالإنتاج والتأليف والإبداع، فكتب في الفلسفة والطب والطبيعيات والإلهيات، والنفس والمنطق والرياضيات والأخلاق، ووضع ما يزيد على 100 ألف مؤلف ورسالة يعتبر بعضها موسوعات ودوائر معارف؛ إذ جمع فيها شتات الحكمة والفلسفة وما أنتجه المفكرون الأقدمون. وأضاف إليها إضافات أساسية ومهمة، جعلته من أساطين الفكر، مما دفع جورج سارتون إلى الاعتراف بأن «ابن سينا أعظم علماء الإسلام، ومن أشهر مشاهير العلماء العالميين».ويشير د. شكري النجار في مقدمة كتاب ابن سينا «منطق المشرقيين»، الصادر في طبعة أحدث عن دار آفاق للنشر والتوزيع، إلى أنه من عادة مؤرخي الفلسفة إذا بحثوا في مذهب من المذاهب، أن يحللوا هذا المذهب، ويبينوا علاقته بالوسط الاجتماعي الذي ظهر فيه، والسبب في ذلك أن لحياة المفكر عادة تأثيراً عميقاً في مذهبه، فقلما وجدنا فيلسوفاً أو مفكراً لم يكن عيشه مضطرباً، وليس بالعجيب أن يكون مذهب ابن سينا صورة صادقة لمزاجه، وأن تكون مبادئه موافقة للتيارات الاجتماعية التي أحاطت به.ظهر ابن سينا في عصر كثرت فيه الأبحاث النظرية ومذاهب الفلسفة ومدارس الحكمة، ونشأ في بيت عريق في خدمة الدولة، فتعهده أبوه بالتعليم والتثقيف وأحاطه بالأساتذة، يعلمونه معارف زمانه، وشروح العلماء في الفلسفة والمنطق والهندسة والإلهيات والطبيعيات، فخرج من ذلك كله واقفاً على دقائق الهندسة، محكّماً علم المنطق، حتى دفعه طموحه إلى دراسة الطب وقراءة الكتب المصنفة فيه.كان لانغماس ابن سينا في الحياة العامة، وتعرضه لتقلباتها ورحلاته المتعددة، التأثير في نظرياته، فجعلت في فكره ومنطقه مسحة من الطريقة العملية في إدارة الأمور، وضعته في منزلة أميل إلى الناحية العقلية والمنطقية منها إلى الروحية، فكان العقل عنده المعبر الذي عبر من خلاله إلى سائر العلوم والفلسفة، فتجلت في الميدانين عقلانيته واحترامه لقواعد المنطق، وهو القائل إن المنطق صناعة تعصم العقل من الضلال في المعرفة؛ لهذا عني ابن سينا بالمنطق عناية خاصة توازي عنايته بالعلوم الطبية، فوضع فيه عدة كتب منها: «منطق المشرقيين»، ويعني به منطق اليونانيين كجزء من الفلسفة المشرقية.أراد ابن سينا أن يكون كتابه هذا مدخلاً لسائر العلوم التي عالجها، أو مدخلاً لكتاب المقولات لأرسطو، أو على غرار كتاب فرفوريوس، الذي ترجمه إلى العربية أبو عثمان الدمشقي، وهذا الكتاب يتناول ألفاظاً خمسة هي الجنس والنوع والفعل والخاصة والعرض. ومع أن ابن سينا تناول هذه الألفاظ الخمسة أيضاً، إلا أنه تطرق إلى طائفة كبرى من الألفاظ التي يحتاج إليها طالب علم المنطق. وأعقب ذلك بأبحاث مفيدة في أبواب شتى، كالغرض من دراسة هذا العلم وعدد أجزائه، ومنزلته من العلوم الأخرى، وكان لا بد لابن سينا من أن يتعرض فيما كتب من المنطق للمعرفة أولاً، من حيث هي تصور يكتسب بالجد وتصديق يكتسب بالقياس.
مشاركة :