هناك مَن لا يزال على اعتقاد أن الحروب الدائرة الآن من المحيط إلى الخليج هي بين إسرائيل والعرب. فلا نسمع أصواتهم ولا نقرأ ديباجاتهم إلا عندما يحصل شيء يتصل بإسرائيل. هذا، علماً أن حلقات الحروب الدامية والتي تغيّر وجه المنطقة ومعالمها تكاد لا تمتّ بصلة إلى الدولة العبرية. ومثال ذلك حرب السُنّة ضد الشيعة في العراق، وانقضاض الحوثيين على اليمن، والحرب الدامية في سورية وحرب الأكراد دفاعاً عن إقليمهم وحرب إيران المباشرة وتلك الخفية في سورية والعراق واليمن والبحرين ولبنان، وحرب تركيا بالإنابة في العراق وسورية. وهكذا الحرب في سيناء وصولاً إلى السودان ومالي ونيجيريا. دورة مروّعة لحروب جديدة لا يُرى لها خاتمة تدور رحاها في حلقات جديدة تستوجب من العربي أو من المهتمّ أن يغيّر مما حفظه عن ظهر قلب لدى سماعه خبر سقوط طائرة أو قصف مدفعي أو سقوط مدينة وإحراق قرية. في حلقة واحدة واضحة المعالم غير واضحة الحدود، تلك الحرب الدائرة رحاها بين شيعة وسنّة خاصة في الشرق الأدنى وصولاً إلى باكستان وجنوباً نحو اليمن الذي كان سعيداً. وفي حلقة ثانية هي حروب إبادة بين السنة والأقليات غير المسلمة وتلك غير السنية كما يجري في العراق وسورية وجنوب السودان مثلاً. وفي حلقة ثالثة هي حرب فكرة الخلافة التكفيرية ضد الدولة العربية كما عرفناها. وفي حلقة رابعة هي تململ المجموعات العرقية والإثنية والمناطقية ضد الترتيبات السائدة. وفي خامسة هي حرب بين إسلام سنيّ معتدل وإسلام تكفيري لا يُقيم وزناً لشيء. ومن تأتي طبقة أخرى من الحلقات الدامية. كل الحروب تشكل حروباً بالنيابة عن قوى إقليمية تريد توجيه دفة الحروب نحو تحقيق مصالحها الإقليمية. وتليها حلقة حروب الغرب في الشرق بُغية هندسته على نحو مريح له ولجريان رأس المال والسلع والنفط وانتظام حركة العولمة. ومن ثم تأتي إسرائيل التي تنظر إلى الأمور يقظة متوجّسة لكن مرتاحة لغياب تحدٍ استراتيجي ولو موقتاً. خريطة الحروب في المنطقة الآن ليست مثلها في عقود مضت وإن بدت استمراراً لها. فإذا كانت الحروب من قبل محصّلة عملية استقلال الدول ونتاج قضية فلسطين فإن حروب اليوم هي محصّلة تفكك الدول وانهيارات ما ألفناه منذ الاستقلال. فالحروب الآن هي مهدّات تضرب بقوة ما ارتسم من حدود بعد الاستقلال وتدكّ النُخب الحاكمة وتغيّر هوية الممسكين بدفّة الحُكم وتفتت السلطة إلى كيانات هشة وتُخضع كل شيء إلى سيولة لم تستقرّ بعد في الأواني المُستطرقة/الدول. إن هذه الشبكة من الحروب وتقاطعاتها ينبغي أن تغيّر فينا شيئاً ما، قراءة، حكماً، تصوراً وموقفاً. لكن انطباعي أنها على رغم كل ما قالته وتقوله إلى الآن عن الضالعين في هذه الحروب، عن وحشيتهم وخيانتهم واستعدادهم لتكرار حروب الإبادة والذهاب بالعنف أبعد بكثير من الخيال ونواياهم الواضحة في تفكيك الأوطان والأقاليم، فما زلنا نسمع أستاذاً أكاديمياً يشرح لماذا علينا أن نقف مع الجزار الأسد وبراميله المتفجّرة، وآخر يؤستذ في جامعات أميركية ويستميت لإقناعنا بتأييد عنجهية «السيد» (أمين عام حزب الله، حسن نصرالله) وحصاره للسوريين والفلسطينيين في اليرموك ولبنان واختطاف الوطن والشركاء فيه رهائن. وآخر يدعونا إلى رؤية عَظَمة الامبراطور أردوغان ومآثر النظام الإيراني. وعلى هذا المنوال كتَبة ومثقفون وشعراء وأدباء ومثلهم - شاعرات وأديبات ومثقفات - كلهم يدافعون عن حروب وأمراء حرب كأنهم الملائكة وكأنهم فرسان الأحلام يحققون الأحلام الملونة كافة! هؤلاء، قد يكونون قوميين/جيين أو شيوعيين أو نسويات ونسويين، وقد يكونون إسلامويين بدرجات متفاوتة ما يزيد الأمر التباساً. فكيف تفسّر انتصار فلسطيني في إسرائيل مثلاً لـ «حزب الله» أو لسورية ـ وهو الذي دوّخ السلطة في إسرائيل مطالباً بالديموقراطية والمساواة الكاملة وكنس الاحتلال؟ أو كيف تفسّر اندلاق نسوية فلسطينية على «السيد حسن» علماً أنها تناضل طيلة حياتها ضد النظام البطركي وممالك الذكورة؟ يرد الأمر هنا ـ كنموذج عما يحصل في الحيز العربي كله ـ إلى جمود عقائدي مستحكم يمنع من الحقائق والوقائع أن يغيّر القراءات العقائدية العقيمة. بمعنى، أنه العُقم في التفكير أو الاحتكام لنص عقائدي جامد يعادي إسرائيل بالمطلق. حالة تجعلهم يرون في كل عدوّ لإسرائيل نصيراً حتى لو كان هذا العدو وحشاً بشرياً في دمشق والقصير والغوطة واليرموك. فيموت هناك الفلسطينيون والسوريون بأيدي «حزب الله» وأيدي النظام وجلاوزته وآلة فتكه فلا يتغيّر لهؤلاء حال، هم على ما هم عليه! أو قد تقمع السلطة التركية الأكراد وحريات الأتراك وتفتح بواباتها لـ «داعش» وجيوشها وتمنع الأكراد من فك الحصار على كوباني لمدة شهرين تقريباً وتستولي على النفط الرخيص من سورية وتبيعه في أوروبا فلا يرون من كل هذا سوى عظمة أردوغان! لكن قد نردّ الحاصل في باب المواقف من الحروب إلى نظريات فرويد وأدبياته ـ وغيره ـ حول دور النزعات الدفينة وتأثير القهر في سلوكيات ومواقف المجتمعات والأفراد. وهذا ما قد يفسّر لنا توق شاعر لأن يكون جنرالاً أو سيّافاً حقيقياً، وتطلع مثقف أشبهي إلى تسلّم قيادة أركان حرب! وإذا فشلا فلن يبقى لهما سوى إعلان الحروب اللفظية والتبشيع في مقارعة الخصوم ومحاربة إسرائيل كلامياً، من مكتب في جامعة إسرائيلية أو من مقهى عربي في مدينة يهودية. من هنا تنتصر الحروب على العقل وتدور حلقات الحروب مصحوبة بالطبول والصنوج فيكفّ العقل العربي عن التفكير. أو إننا كثقافة تتعذّر علينا قراءة الحالات المركبة والمتقاطعة بعد قرون من قراءة التسطيح القائمة على الاتباع لا على الإبداع. وهو ما يُفضي إلى الإخفاق في كل منعطف تتعقّد فيه الأحوال وتختلط!
مشاركة :