لندن – رغم أن عملة البتكوين فقدت أكثر من 80 بالمئة من قيمتها خلال العام الحالي، إلا أنها كانت أفضل حالا من جميع العملات الرقمية المشفرة الأخرى، التي فقدت جميعها ما لا يقل عن 90 بالمئة من قيمتها. وبلغت قيمة البتكوين، التي تمثل لوحدها معظم القيمة السوقية لجميع العملات الرقمية، أمس أقل من 4 آلاف دولار مقارنة بنحو 20 ألف دولار في بداية العام الحالي. ورغم أن ذلك الانخفاض لا يزال يقل كثيرا عن المكاسب الهائلة التي حققتها في 2017، لكن معظم الخبراء يعتقدون أن الأسس التي تقوم عليها تزعزعت لحد بعيد وأنها من المستبعد أن تستعيد الثقة التي كانت تتمتع بها. وتراجع إقبال الأفراد على العملات الرقمية بشكل كبير، إضافة إلى تراجع عدد الشركات التجارية التي تقبل الدفع بتلك العملات. في بداية العام الحالي لم يكن أحد يتخيل إمكانية مواجهة زحف العملات الرقمية، رغم أنها كانت تنذر بتقويض نفوذ السلطات المالية ودور المصارف المركزية للدول وما يمكن أن يتبع ذلك من زعزعة للاستقرار العالمي. وكان جميع المحللين يرجحون مواصلة انتشارها مهما بلغت العقبات التي تعترضها ومهما اتخذت السلطات من إجراء ضدها. وجاءت بوادر أزمة العملات الافتراضية من تحذيرات الكثير من البنوك المركزية حول العالم، وبضمنها بنوك مركزية عربية، من التعامل بالعملات الافتراضية، لما لها من مخاطر على أموال المستثمرين فيها، لكن ذلك لم يكن كافيا لتفجير فقاعتها. وجاءت الضربة الحاسمة في فبراير حين قررت مصارف أميركية وبريطانية منع شراء العملة الرقمية وبيعها باستخدام بطاقات الائتمان، وهو ما أظهر إمكانية خنقها وحصر تداولها في أقبية سرية محدودة إذا ما امتد الإجراء إلى المصارف في أنحاء العالم. ويمكن لتلك الخطوة أن تبعد ملايين الأشخاص عن التعامل بالعملات الرقمية لعدم قدرتهم على شرائها وبيعها، الأمر الذي يقلص مساحة تداولها بدرجة كبيرة. كان الاعتقاد الشائع أن العملات المشفرة قدر محتوم لا يمكن إيقافه مهما كانت الإجراءات التي تتخذها السلطات المالية لأنها تقوم على تعاملات ثنائية لا وجود لأي طرف ثالث فيها وخارج نفوذ السلطات التنظيمية. لكن أكبر البنوك الأميركية فاجأت الأوساط المالية بحظر استخدام بطاقات الائتمان في شراء جميع العملات الرقمية، في خطوة قالت إنها تهدف إلى الحد من المخاطر المالية والقانونية.وأطلق بنك أوف أميركا شرارة الحظر في فبراير ثم تبعه مصرف جيه.بي مورغن في اليوم التالي. وأعلنت مجموعة سيتي غروب المصرفية أنها ستوقف شراء العملات الرقمية باستخدام بطاقات الائتمان. وسرعان ما انضم مصرفا كابيتال وان وديسكفر، ما يعني أن 5 جهات رئيسة لإصدار بطاقات الائتمان في الولايات المتحدة أعلنت أو فرضت بالفعل حظرا على هذه المشتريات. ثم امتدت الخطوة إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، حيث أعلن بنك لويدز البريطاني حظر شراء عملائه للعملة الافتراضية بتكوين باستخدام بطاقات الائتمان التي يصدرها البنك. وسرعان ما ظهر تأثير تلك الخطوات في الهبوط الكبير لجميع العملات الرقمية التي فقدت بعد تلك القرارات نحو نصف قيمتها وتواصل انحدارها منذ ذلك الحين. وتشير التقديرات إلى أن القيمة السوقية الإجمالية للعملات الرقمية تقارب حاليا نحو 100 مليار دولار بعد أن كانت تصل إلى 600 مليار دولار في بداية العام الحالي. وتزعزعت الثقة بتلك العملات بدرجة كبيرة بسبب مخاوف من أن تمتد خطوة المصارف الأميركية والبريطانية إلى دول أخرى مثل الاتحاد الأوروبي ودول معارضة أساسا لاستخدام العملات الرقمية مثل الصين ومعظم دول الشرق الأوسط. وقد تتلقف حكومات الدول الكبرى هذه الهدية المفاجئة بعد أن كانت خائفة من تقويض النظام المصرفي العالمي إذا ما تراجع النفوذ المالي للمصارف المركزية، الأمر الذي يهدد بانهيار الدول في المستقبل. وتعد السلطة النقدية أبرز أدوات الدول التي تمكنها من إدارة وتنظيم النشاطات الاقتصادية، ومن دونها يمكن أن تنهار سلطاتها وتعم الفوضى إذا ما تقلصت العوائد المالية للحكومات. ويمكن أن تضغط الدول الكبرى على جميع دول العالم لفرض منع استخدام البطاقات الائتمانية في شراء وبيع العملات الرقمية، وهو ما سيحرمها من معظم المتعاملين ويبقي قيمتها حبيسة في أقبية سرية. ولا تملك العملات الرقمية الحالية رقما متسلسلا ولا تخضع لسيطرة الحكومات والبنوك المركزية كالعملات التقليدية، بل يتم التعامل بها فقط عبر شبكة الإنترنت، دون وجود فيزيائي لها. وتلقفت المصارف المركزية ذلك المأزق وبدأ معظمها خطوات لإصدار عملات رقمية تخضع هذه المرة لرقابة السلطات المالية لتظهر ملامح عصر مالي تتلاشى فيه العملات التقليدية.
مشاركة :