تكتسب العملات قيمتها من ثقة المتعاملين بها، وترتفع ثقة المتعاملين بأي عملة لقيمتها الذاتية أو قيمة الأصول التي تغطيها أو يمكن تبادلها بها أو من الثقة بمصدرها. وتحمل العملات التقليدية التي أهمها الذهب والفضة قيما ذاتية في أي مكان وزمان. أما في العصر الحديث فقد اكتسبت العملات الورقية ثقة الناس بعد القبول التي حظيت به من قبل الجمهور وتغطيتها في البداية بالذهب والفضة أو بعملات مغطاة بالذهب والفضة. وقد أدى نمو الاقتصاد والتجارة العالمية إلى التخلي عن سياسات تغطية العملات بالذهب والفضة وحل بدلا منها الثقة بالاقتصادات والحكومات المصدرة للعملة وقبول الناس لها. وظهرت في الأعوام الأخيرة العملات الرقمية، التي تدنت بها الثقة سابقا ولكنها اكتسبت مع مرور الوقت ثقة عدد متزايد من البشر. وازدادت الثقة بالعملات الرقمية مع ارتفاع قلق شرائح واسعة حول رشادة السياسات الاقتصادية العامة. وارتفعت أسعار العملات الرقمية وأشهرها بيتكوين نظرا لعدم مركزيتها ومحدودية عددها وسرية تعاملاتها وارتفاع مستويات المضاربة بها. مع دخول المضاربين المكثف لأسواق العملات الرقمية والمكاسب المرتفعة التي جناها بعضهم، والقبول المتزايد لها أخذت أسعارها تسجل مستويات قياسية. وكانت فترة أزمة كورونا من أفضل المراحل التي مرت بها العملات الرقمية حيث تضاعف سعر أشهرها بيتكوين تسع مرات وسجل مستويات قيمة قياسية وصلت إلى نحو 69 ألف دولار في نوفمبر 2021. وأضحى كثيرون يبشرون بغروب عصر العملات الورقية وحلول العملات الرقمية بدلا لها. لكن يبدو أن الارتفاع السريع والكبير في سعر أي شيء يجلب معه مخاطر انهيار قيمته الحاد والمفاجئ، وهذا ما حدث فعلا للعملات الرقمية وأهمها بيتكوين الذي تراجع من قمته الأخيرة إلى مستويات 16 ألف دولار، فاقدا ما يزيد على ثلاثة أرباع أعلى سعر مسجل منذ عام. وتراجعت باقي العملات الرقمية بمشاهد مقاربة لبيتكوين. وهذا ليس غريبا على هذه العملات حيث قفزت أسعارها بقوة عدة مرات لكنها ما تلبث أن تتهاوى بسرعة بعد ذلك. وعموما تتصف العملات الرقمية تاريخيا بالاضطراب الحاد في أسعارها حتى على المستوى اليومي، لهذا يصعب قبولها كوسيط تبادل من قبل أغلب الناس لشدة تقلباتها وارتفاع مخاطرها في الاستثمار والادخار. تقف عدة عوامل خلف الانهيار الحاد في العملات الرقمية. فقد رفعت عوامل اقتصادية عامة عبر العالم كزيادة معدلات الفائدة والتباطؤ الاقتصادي العالمي والحرب الأوكرانية مخاطر الاستثمار وخفضت قيم كثير من الأصول. لكن معظم التأثير السلبي جاء مما شهدته أسواق العملات الرقمية ذاتها من تطورات، من أبرزها انهيار أحد أكبر منصات أو وسطاء تبادل العملات الورقية "إف دي إكس" والفضائح المحيطة بها، وكذلك معاناة شركات ومنصات رئيسة أخرى مختصة بالعملات الرقمية من معضلات مالية خفضت ميزات تعاملاتها. من ناحية أخرى بدأت دول كبرى كالصين في إجراءات الحد من التعامل بالعملات الرقمية الخاصة ومنعها وإصدار عملات رقمية رسمية بدلا عنها. كما فرضت دول عديدة قيودا على تعاملاتها وازدادت مراقبة الحكومات لتبادلاتها نظرا لكثرة الممارسات غير الشرعية عبرها التي من أبرزها التهرب من الضرائب. حذر عديد من المختصين قبل انفجار فقاعة العملات الرقمية - بما في ذلك صندوق النقد الدولي - من مخاطر الاستخدام الموسع للعملات الرقمية المهددة للاستقرار الاقتصادي. كما تراجعت ثقة كثير من المتعاملين بالعملات الرقمية بسبب بعض السرقات الكبرى التي عانتها. ورفعت تلك التطورات مستويات الهلع لدى كثير من ملاكها ودفعتهم لبيعها ما ضغط على أسعارها. وكانت أسعار العملات الرقمية قبل انهيارها الأخير قد شهدت زيادات متسارعة دون أساسيات منطقية، ما كان مؤشرا على تضخم مبالغ بأسعارها وتكون فقاعة في تعاملاتها. وذكرت مصادر مختلفة أن تجارة العملات الرقمية كانت الأكثر اكتظاظا قبل الانهيار الأخير وأن وضع تبادلاتها كان مشابها للأوضاع السابقة لانفجار فقاعتها في 2017. يعزز الانهيار الأخير للعملات الرقمية الخاصة الشكوك حول مستقبلها لعدد من الأسباب لعل من أبرزها عدم تمتعها بالشرعية أو أي ضمانات أو دعم حكومي أو مؤسسي. إضافة إلى ذلك لا تتمتع العملات الرقمية الخاصة بأي حقوق استهلاك أو استثمار ما يرفع مخاطر الاستثمار والتعامل بها. ويكتنف العملات الرقمية الخاصة والمتعاملين بها كثير من الغموض بسبب نظام السرية التي تتصف بها، وهي غير مقبولة قانونيا في معظم دول العالم. نظرا لأهمية صلاحية إصدار العملة وما تعطيه للدول من قوة ونفوذ وهيبة وتأثير في السياسات العامة والمجتمعات، فإن الدول ممثلة في المصارف المركزية لم تتخل سابقا عن احتكارها لصلاحيات إصدار العملات التقليدية ولا أعتقد أنها ستتنازل مستقبلا عن نفوذها في الاحتكار والسيطرة على إصدار العملات الرقمية أيضا. وقد بدأت دول عديدة في خطوات إصدار عملات رقمية واستخدامها. وسيساعد إصدار المصارف المركزية لعملاتها الرقمية الدول على ضمان استقلاليتها والحفاظ على إيراداتها من التهرب الضريبي. إضافة إلى ذلك فإن الدول أكثر حرصا ومراعاة لتأثيرات العملات الرقمية في القطاعات الاقتصادية وأهمها القطاع المصرفي والمالي، ولهذا فإن سيطرتها على إصدار العملات الرقمية سيتجنب قدر الإمكان المساس بالمصالح العامة والاستقرار الاقتصادي.
مشاركة :