اللغة ثقافة مجتمعات (2 من 2)

  • 12/28/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

استكمالا لمقالنا الفائت حول «حكايات ومواقف لغوية»، وكنا قد توصلنا إلى معالجة كلمة (كروسة):- الكروسة: لفظة فرنسية (Carrosserie) كانت تطلق قديما على عربة الأحصنة (الكاريتا)، ومازال في بعض الدول مثل مصر وتونس وبغداد يستخدمونها للسياحة، ويستخدمها الجزائريون في مجال ضيق للسيارة الصغيرة، وتجمع على (كرارس) ووزنها (فعاعل)، وفي تونس يطلقون على السيارة (الكارهبا)، وتجمع على (كراهب)، وعن سبب تسمية التونسيين للسيارة بـ (كارهبا) قال لي أحد الأصدقاء من تونس بأن التسمية تتكون من لفظتين إنكليزيتين (car) و(happy) أي (سيارة السعادة)، أما (كروسة) باللهجة الجزائرية المحكية يوميا في الشارع الجزائري وعلى نطاق ضيق، فأنا أدعي أنها تتكون من لفظتين عربيتين الأولى (كار) والثانية (سعادة)، ولفظة (كار) عربية بحتة، وليس كما يتوهم بعض من الناس على أنها إنكليزية (car)؛ فهي جاءت من كر الشيء أي جره، ولا نستبعد أنها جاءت من الجذر (كرس)، فقد جاء في المعجم «كرس: تعني الحوض»، والحوض هو مكان للجلوس. وفي اللهجة الجزائرية المحكية كثيرا ما تستخدم لفظة (كرّ) في معناها العربي فيقولون (كر هذا الشيء) أي جره، ويقولون للمتثاقل في مشيه (يكركر)، ولفظة (كار) منفردة تطلق في الجزائر على حافلات صغيرة تنقل الركاب من ولاية إلى أخرى، ويجمعونها على (كيران) مثل (جار وجيران). إذن (كروسة) أرى أنها عربية وهي (كار السعادة). ولو رجعنا إلى المعجم فسنجدها في جذرين اثنين (كرر، كور): «كرر: الكرّ يعني الرجوع، (تكركر) الرجل في أمره: أي تردد، و(كركره) عن الشيء، دفعه ورده وحبسه». أما الجذر الآخر فهو (كور): «الكارة: ما يحمل على الظهر من الثياب. الكار: سفن منحدرة فيها طعام في موضع واحد. كار الرجل في مشيته: أي أسرع، كار الفرس يكير: إذا جرى رافعا ذنبه، وفي حديث المنافقين: يكير في هذه مرة وفي هذه مرة: أي يجري، وكرت الدابة كروا: أسرعت. كرى الرجل كريا: عدا عدوا شديدا». نحن في الكويت نقول (سيارة) وقديما كانوا يطلقون على السيارة (موتر- motor) في استخدامات الشباب لسيارات السباق، ويجمعونها على (مواتر)، يبدو لي هذه التسمية اندثرت الآن، في مصر يقولون (عربية)، (كرّ) في استعمال كويتي ضيق هي بمعنى (الذبح) نقول: كر الخروف أو الطير أو الدجاجة. وجاء في المعجم بأن «الكرار: خرزة يؤخذ بها النساء الرجال، ومنها تقول الساحرة: يا كرَارِ كـُرّيه». تابع حكايتنا عن الموقف اللغوية: وفجأة صرخت زوجتي مرددة (تشمخت) أكثر من مرة، ومما زاد الطين بلة أنها غطت رأسها ووجهها بمعطفها، فذهبت أنا بلهجتي الكويتية حينما سمعت لفظة (تشمخت) على أن هناك قطا أو هرا قام بخدشها أو خرشها، و«(الخدش) و(الخمش) يكون بالأظافر، و(خرش) هو الخدش في الجسد كله)»، بدليل أنها غطت رأسها ووجهها، ولكني في ذات الوقت استغربت وجود قط في هذا المطر الشديدة، فلربما هناك سوء فهم لغوي، وأهل العراق أيضا يشتركون معنا بهذا المعنى بدليل لديهم مثل شعبي (بزون ما عدها شغل تشمخ الشبة)، البزون في العراق هو القط، ولم أجد لهذه التسمية تفسيرا إلا أن تكون غير عربية. (تشمخ) أي تخدش أو تخرش، (الشبة) عمود النور في الشارع.وفي الجزائر يقولون عن الخدش أو الخرش (خربش) وهي عربية فصيحة تستخدم عادة في الورق والقلم، جاء في المعجم «الخربشة: هي إفساد العمل والكتاب ونحوه»، وكذلك السودان يقولون (خربش) ويقولون ما وافق العربية (خرش)، وتسميات القط كثيرة في البلدان العربية مثل تونس يطلقون عليه (قطوس)، ولعل هذه التسمية جاءت من لفظتين (قط) و(طوس) إي الإناء الذي يشرب به، مثلما نحن نقول في الكويت (قطو مطابخ) وهو القط الذي يتواجد كثيرا في المطبخ يقتات مما يسقط من الطعام، والسودان يطلقون عليه (كدِيس) تجمع على (كـَدَسة وكـَدَايس) لربما (الكاف) منقلبة عن (قاف) التسمية هي (قديسة) فمذ كنا صغارا كان الأهالي يزعمون أن للقطط عالما روحانيا خاصا، ويحذروننا من التعرض للقطة، في الكويت (قطو) وإذا كان قط أسود ضخم يقولون عنه (عتوي) وقد جاء في المعجم: «عتا: يعتو عتوا وعتيا: أي استكبر وجاوز الحد، والعتو: التجبر والتكبر». في الجزائر يوافقون اللغة العربية (قط).وبعد ذلك فهمت بأن معنى (تشمخت) في اللهجة الجزائرية، هي (تبللت)، وطبيعي جدا أن تغطي المرأة رأسها ووجهها في المطر خوفا من إفساد زينتها وهذا هو شأن المرأة الطبيعي، وحينما بحثنا في جذر هذه الكلمة في المعاجم العربية لم نجدلها معنى البلل في اللهجة الجزائرية ولا معنى الخدش أو الخرش في اللهجة الكويتية، إلا أنني وباجتهاد لغوي في المحسوسات، توصلت إلى الآتي: شمخ في المعجم تطلق على الجبل العالي يقولون «شمخ الجبل؛ أي علا وارتفع، والجبال الشوامخ؛ أي الشواهق،وجبل شامخ وشمـّاخ؛ أي طويل في السماء، والشامخ هو الرافع أنفه عزا وتكبرا وتعظما». وقمم الجبال الشامخة الشاهقة هي أول من تلامس مياه الأمطار، والأمطار لا تستقر بها، بل تبللها فقط، ويحضرني قول أبي تمام حيث يقول: (لا تنكري عطل الكريم من الغني... فالسيل حرب للمكان العالي). وهنا لفظة (شمخ) اكتست معنى البلل، كما أن الجبل هو علامة بارزة، والقط حينما يخدش أو يخرش الإنسان بأظافره، يحدث به علامة بارزة، وهنا لفظة (شمخ) اكتست معنى الخدش والخرش. هذا تقديري لمعنى لفظة (شمخ) في الاستعمال الجزائري والاستعمال الكويتي... والله أعلم.إن مثل هذه المواقف اللغوية العائلية بين لهجتين متباينتين، تنشئ علاقات إنسانية، ومشاركات وجدانية من التذاكر والتسامر والطرافة التي تضفي - بلا شك - سعادة على الحياة الأسرية.* كاتب وباحث لغوي كويتيfahd61rashed@hotmail.com- بمناسبة اليوم العالمي للاحتفاء باللغة العربية

مشاركة :