قرارٌ مفاجئ من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بسحب قوات بلاده من سوريا، يبدو واضحاً أنه قد أربك الموقف السياسي الراهن بالمنطقة ليعيد تشكيل المشهد المتدحرج هناك، ويضع سيناريوهات عدة للمستقبل، لكن القرار الذي يبدو مفاجئاً يرتكز بالأساس على سياسة ترامب الداعية منذ وصوله إلى البيت الأبيض، إلى سحب القوات الأمريكية من سوريا وإعادتها إلى الديار. المعارضون يرون أنه يخدم من الناحية السياسية والإقليمية كلًا من روسيا وإيران، ويترك هامشاً كبيراً للتحركات التركية خاصة أن القرار اتُخِذَ دون تنسيق مع الحلفاء، لكن ترامب برر قراره بإعلان النصر على تنظيم الدولة، لافتاً إلى أن ذلك يصب في إطار وفائه بتعهدات قطعها خلال حملته الانتخابية. لكن على الرغم من أن القرار قد قلب الطاولة وسيدخل المنطقة في مرحلة مجهولة من المساومات المعقدة، فإن بعض المؤشرات ترجح أن واشنطن لن تتخلى بسهولة عن قواعدها العسكرية المتمركزة في سوريا والتي تجاوزت (13 قاعدة) دون إعادة انتشارها وفقاً لترتيبات الحل النهائي للعملية السياسية في سوريا، وهو ما يعني احتمالية تراجع ترامب عن تنفيذ قراره مباشرة، أو أن تحلّ قوات حليفة محل القوات الأمريكية المنسحبة من المستنقع السوري. ولأول مرة في الملف السوري تتفق وزارة الدفاع (البنتاغون) مع الخارجية، ضد البيت الأبيض، وقد تمثل ذلك حول قرار الانسحاب من سوريا، خاصةً في ظل ضغوطات كبيرة وصلت لمستوى أعضاء في الكونجرس لتعديل هذا القرار، حيث حذر عدد كبير من كبار المسؤولين الأمريكيين من انسحاب متسرع يطلق يد روسيا وإيران في سوريا، وقد رد الرئيس ترامب على تويتر، حول ذلك بقوله: «روسيا وإيران وسوريا وعديد غيرهم ليسوا مسرورين بخروج الولايات المتحدة، رغم ما تقوله الأخبار الكاذبة، لأن عليهم الآن قتال تنظيم الدولة وغيره ممن يكرهونهم بدوننا!». وقال ترامب أيضًا، إنه «إذا كان قائد أمريكي آخر غيره قد أمر بسحب القوات الأمريكية من سوريا، فسيكون هذا الشخص هو البطل الأكثر شعبية في أمريكا». فالرئيس الأمريكي يهدف من الانسحاب وما شابهه من قرارات ومواقف أخرى اتخذها سابقاً إلى تجسيد حالة انكفاء على الذات تحت شعار (أمريكا أولا)، وانسحاب تدريجي من تحمل أعباء قيادة المنظومة الدولية، فهو يرى أن على الآخرين أن يحاربوا من أجل أنفسهم وأن الأعداء المحليين لداعش عليهم أن يتحملوا العبء الأكبر بعيداً عن أي إسهام أمريكي مباشر، لكن الانسحاب المفاجئ قد يعطي فرصة أكبر لإعادة بروز تنظيم داعش ليشكل خطراً جديداً على كل من العراق وسوريا مرة أخرى، بل والمنطقة بأكملها. وعلى صفحة ونصف الصفحة كتب وزير الدفاع الأمريكي «جيمس ماتيس» استقالته، والتي عمّمها البنتاغون غداة إعلان الرئيس دونالد ترامب عن قرار الانسحاب الأمريكي من سوريا، وكتب ماتيس «إن قوّة أمّتنا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقوّة نظامنا الفريد والمتكامل القائم على التحالفات والشراكات»، مذكّراً الرئيس بأن «الدول الديمقراطية ال 29 في حلف شمال الأطلسي أعربت عن مدى صلابة التزامها من خلال القتال إلى جانبنا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر»، ومن خلال تذكيره للرئيس ترامب بواجبات الولايات المتحدة إزاء الحلفاء، أعاد ماتيس تأكيد قناعاته، مشيراً إلى أنها تختلف تماماً عن تلك التي يتمسّك بها الرئيس، من دون أن يأتي على ذكر قرار الانسحاب من سوريا. وقد قالت بعض وسائل الإعلام الأمريكية إنه من المتوقع أن تكون هناك مزيد من الاستقالات بوزارة الدفاع الأمريكية بعد قرار سحب القوات من سوريا، وقد فتح الرئيس ترامب النار على ماتيس، معتبراً أنه بتعيينه له في منصب وزير الدفاع، قد منحه فرصة ثانية، في إشارة ضمنية إلى أن ماتيس لم يتمكن من الاستفادة من هذه الفرصة الذهبية الجديدة، وكتب ترامب على تويتر: «عندما فصل الرئيس أوباما ماتيس بشكل غير مشرف، أعطيته أنا فرصة ثانية»، وفي الإطار ذاته أعلن ترامب أن «باتريك شاناهان»، نائب وزير الدفاع، سيصبح القائم بأعمال وزير الدفاع من بداية يناير 2019م، في خطوة تمهيدية لتعيين وزير دفاع جديد يتفق مع رؤية ترامب حول عديد من القضايا. وفي تطور مماثل فقد قرر المبعوث الرئاسي للحرب ضد داعش «بريت ماكجورك» أن يستقيل قبل الموعد المحدد لترك منصبه، وقد غرد ترامب على صفحته على موقع تويتر قائلاً: «إن بريت ماكجورك، الذي لا أعرفه، تم تعيينه من قبل الرئيس أوباما عام 2015م، وكان من المفترض أن يغادر منصبه في فبراير، لكنه استقال قبل مغادرته، إثارة دعائية!، فالأخبار الكاذبة تجعل من اللا شيء أزمة كبيرة!». ردود الأفعال على قرار الرئيس الأمريكي بالانسحاب ما زالت تتفاعل إذ لم تخفِ فرنسا وبريطانيا وألمانيا المشاركة في التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة (داعش) قلقها من القرار الأمريكي، خصوصاً أنها كانت هدفاً لاعتداءات تبناها التنظيم، حيث اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن «على الحليف أن يكون محل ثقة وأن ينسق مع حلفائه الآخرين»، مضيفاً أنه «يأسف بشدة للقرار»، متابعاً: «أريد أن أشيد بالجنرال ماتيس، وبالأقوال التي رافقت قراره، وشهدنا قبل عام على قدرته أن يكون محاوراً موثوقاً»، وفي إطار التكهنات حول إمكانية أن تحل القوات الفرنسية محل الأمريكية في سوريا، فإن المراقبين يجمعون على أن باريس لا تستطيع أن تملأ الفراغ الذي سوف يحدثه الانسحاب الأمريكي من منطقة شرق الفرات شمال شرقي سوريا، لا سياسياً ولا عسكرياً، ولكن التصريحات الفرنسية حول دعمها للوحدات الكردية، يثير موجة من التساؤلات حول أهداف باريس ومآلات الوضع الذي يشهد مزيداً من التعقيد والتشابك، وقد أعلنت باريس عن نيّتها الإبقاء على قواتها في شمال سوريا على خلفية قرار الرئيس ترامب، وأكّدت أنها بدأت محادثات مع واشنطن بشأن ظروف الانسحاب والجدول الزمني لتنفيذه، جديرٌ بالذكر فإن تمركز القوات الفرنسية في سوريا يتمثل في وجود قواتها في تلة ميشتانور، وبلدة صرين، ومصنع لافارج الفرنسي للإسمنت في ريف حلب، وبلدة عين عيسى في ريف الرقة، إضافة إلى مدينة منبج في ريف حلب. من جهتها، أكدت الوزيرة الفرنسية للشؤون الأوروبية، ناتالي لوازو، أن «فرنسا تبقى ملتزمة عسكريا في سوريا»، وقالت إن «الحرب ضد الإرهاب حققت تقدماً كبيراً، صحيح أنه كان هناك تقدم كبير في سوريا من خلال التحالف، لكن هذه المعركة مستمرة، وسنواصل خوضها». وفي لندن اعتبرت وزارة الخارجية البريطانية أن تنظيم الدولة لم يُهزم بعد في سوريا، وأضافت أن المملكة المتحدة ستبقى مشاركة في التحالف الدولي وحملته لحرمان داعش من السيطرة على أراضٍ جديدة وضمان هزيمته القاطعة، أما ألمانيا فقد قال وزير خارجيتها «هايكو ماس» في بيان رسمي: «لقد تراجع تنظيم الدولة لكن التهديد لم ينته بعد». أما الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» فقد وصف القرار بال«صائب»، مستدركاً أن موسكو لم تر بعد ما يشير إلى بدء هذا الانسحاب. أما النظام في دمشق فلم يعلق على قرار البيت الأبيض بسحب القوات الأمريكية، فثمة أمر غير بريء في الخطوة المفاجئة، هكذا يبدو على الأقل حتى الآن بالنسبة له، وقد اكتفى التلفزيون الرسمي للنظام بالإشارة إلى الموقف الروسي المرحب بقرار واشنطن، والذي قالت عنه وزارة الخارجية الروسية إنه يفتح آفاقاً للتسوية السياسية في هذا البلد، وأنه سيؤثر إيجاباً على تشكيل اللجنة الدستورية السورية، وعلى الوضع في منطقة التنف الحدودية بين سوريا والأردن. أما تركيا فمن جهتها فتتعامل بحذر مع قرار ترامب، وتضع في حساباتها سيناريوهات أسوأ بينها تسليم الأكراد مناطقهم للنظام وبقاء سلاحهم الثقيل المهدد لأمنها القومي، حينها ستكون مضطرة للضغط على الدول الأوروبية بشكل خاص لتكون جزءاً من حل الأزمة السورية، أو أن تواجه الأمر بنفسها من خلال عملية عسكرية واسعة في مناطق الأكراد، لكن بشكل مؤقت فقد أعلن الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» عن التريث في إطلاق العملية العسكرية المرتقبة شرق نهر الفرات، في وقتٍ تغزل الرئيس ترامب، بنظيره أردوغان، معتبرا أنه «سيجتث تنظيم داعش»، على الرغم من أن أنقرة تواجه اتهامات باتخاذ من الحرب على داعش ذريعة لسحق الأكراد في شمال سوريا، وتنفيذ أجندة توسعية في الدولة المجاورة. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، فقال إن إسرائيل ستصعد معركتها ضد القوات المتحالفة مع إيران في سوريا بعد انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، وقال نتنياهو في تصريحات بثها التلفزيون «سنواصل التحرك بنشاط قوي ضد مساعي إيران لترسيخ وجودها في سوريا». تداعيات الانسحاب المفاجئ سيتبعه خلط للأوراق مجدداً في المشهد السوري، كما ستكون الأيام المقبلة ملأى بالمفاجآت العسكرية والسياسية، ففي حال أتمت واشنطن انسحاب قواتها من شرقي الفرات، فيجب على الفصائل الكردية تسليم مواقعها للقوات السورية، ولاسيما في المناطق الحدودية الشمالية، وعدم تسلم القوات السورية هذه المواقع سيعطي الأتراك مبرراً للقول إن هذه المواقع لم تعد منضبطة بعد أن غادرت القوات الأمريكية الشرق السوري، وسيتذرع الأتراك بأنه يجب إعادة ضبطها عبر عملية عسكرية تركية واسعة تعتمد على ميليشيات درع الفرات وميليشيات جهادية موجودة في إدلب ستستقدمها أنقرة إلى الشرق والشمال السوري. لذلك فإن وحدات الحماية الكردية، تلك التي تقود تحالف قسد، سياسياً، تسابق الوقت، وتعقد اجتماعات متتابعة في موسكو وباريس من أجل إيجاد مخرج للحل العسكري المرتقب في ظل تعزيزات تركية هي الأضخم من نوعها على الخط المحاذي للحدود السورية التركية. ولعل هذا ما دفع أيضاً رئيس هيئة التفاوض السورية، الممثلة لأطياف واسعة من قوى المعارضة «نصر الحريري»، إلى دعوة واشنطن لتنسيق انسحابها من مناطق سيطرة الأكراد مع تركيا والفصائل الموالية لها؛ لقطع الطريق أمام قوات النظام والإرهابيين. أما الروس فقد بدأوا في استغلال الموقف الأمريكي لصالحهم، حيث توالت التصريحات الرسمية المؤيدة للقرار والمنددة بالوجود الأمريكي في سوريا من الأساس، حيث قالت «فالينتينا ماتفيينكو»، رئيسة مجلس الاتحاد الروسي: «إن قرار سحب خبرائنا ليست له أي صلة بقرار الولايات المتحدة» مضيفة: «ستقرر الحكومة السورية بالتعاون معنا ما إذا كنا سنسحب قواتنا بشكل تام أو جزئي»، معتبرة أن القرار الأمريكي صحيح، وأن الجنود الأمريكيين في سوريا لم يكن لديهم تفويض دولي، في حين أن الجيش الروسي شارك في العمليات العسكرية في سوريا بدعوة من الحكومة السورية، من جهته فإن وزير الخارجية الروسي «سيرغي لافروف» قد أكد على عدم وجود أي أساس قانوني للوجود العسكري الأمريكي في سوريا، مشيراً إلى ما أسماه ادعاءات واشنطن بأن وجودها العسكري في سوريا يستند إلى المادة (51) من ميثاق منظمة الأمم المتحدة التي تجيز حق الدول في الدفاع عن النفس قائلاً: إن «واشنطن تحتل عملياً 30 % من الأراضي السورية، واتهمها بأنها تنتهك سيادة ووحدة أراضي سوريا واستقلالها، داعياً إلى التروي في النظر بشأن مدى جدية إعلان الرئيس ترامب سحب القوات الأمريكية من سوريا، وفي الوقت ذاته فقد شدد على أن الوجود العسكري الروسي في سوريا «شرعي لأنه يستند إلى دعوة من الحكومة السورية وفقاً للقانون الدولي». وخلال الأيام القادمة ستعمل الإدارة الأمريكية على إيجاد تفسيرات واقعية لقرار ترامب بالانسحاب من سوريا، والتي يمكن أن تكون ضمن الأمور الآتية: الضغط على الأكراد للقبول بإعادة هيكلة قوات سوريا الديمقراطية، وطرد جميع العناصر الأجنبية خارج الحدود السورية، ودمج أكبر للمجموعات العربية ضمنها، ويُضاف إلى ذلك عدم اعتراض الدخول التركي إلى شرق الفرات، حيث إن ما يهم الأتراك - وفقاً للتفهمات الأمريكية التركية - هو أمن الشريط الحدودي لهم فقط، ومن ثمَّ يمكن الحديث عن حث روسيا للقبول بالبدء بعملية سياسية واقعية في سوريا دون الحديث عن دور لرئيس النظام بشار الأسد فيها، ويجب التأكيد هنا على أن هذا السيناريو غير مكتمل الأركان وهو قابل للنسف كلياً في أي لحظة، خاصةً أن العواصف السياسية في الولايات المتحدة لم تهدأ بعد.
مشاركة :