لندن – يرى أخصائيون اجتماعيون أن مرتكب العنف الأسري لا يعتدي على شريكه فحسب وإنما هو يؤذي نفسه، أيضا، بارتكابه لأي شكل من أشكال الاعتداء. لذلك تعمل بعض المراكز المتخصصة في تأهيل مرتكبي العنف والضحايا على حدّ سواء لتحسين قدرة الطرفين على التحكم في الانفعالات وردود الفعل وتجاوز حالة الغضب. عرضت هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي)، نموذجا لأحد هذه المراكز وتابعت حالة زوجين يتلقيان برنامجا للتأهيل والعلاج من آثار العنف الأسري. فبعد أن حصلت الزوجة إيما على تأهيل بمساعدتها على المضي قدما في حياتها والتخلص من أثر العلاقة المؤذية وإعادة بناء احترامها لذاتها، ظل أندرو يبحث عن مساعدة ليتوقف عن إيذاء شريكته، حين واجه احتمال فقدان عائلته. وخلال بحثه، عثر على مؤسسة “فينيكس” لمكافحة العنف الأسري، التي تساعد الرجال في سعيهم لتغيير سلوكهم. يتذكر المرة الأولى التي دخل فيها غرفة مليئة برجال مظاهرهم غريبة، وحينها قال لنفسه “ما الذي فعلته؟”. بعد قضائه سبعة أشهر وسط المجموعة، كون صداقات مع أفرادها، ويقول إنه بدأ يفهم تأثير سلوكه. تعتمد المؤسسة على برنامج يشمل أفكارا لحل المشكلات ونقاشات تهدف إلى توضيح تأثير السلوك العنيف أمام من ارتكبوه في الماضي. يقول أندرو “لست فخورا بالشخص الذي كنت عليه، لكني فخور بما أنا عليه الآن”. وتؤكد إيما أنها لاحظت تغير أندرو، وتقول “هو الآن مختلف، نتحدث أكثر، يستمع”. وتقول ليديا، التي ساعدت أندرو خلال البرنامج التأهيلي، إنه من الضروري التدخل وإلا فإن ذلك الشخص سيجد ضحية أخرى، وهناك احتمال كبير أن يكون مؤذيا في علاقته القادمة. وتركز مؤسسة “فينيكس” على التواصل مع طرفي العلاقة بشكل أسبوعي، إذ ترى أن الطرفين، المسيء والمساء إليه، بحاجة إلى المساعدة، إما معا وإما بشكل منفصل، إذا أرادا الخروج من دوامة العنف. لكن لا تنتهي كل الحالات بنهاية إيجابية، حيث لم تلاحظ سارة، مثلا، أي تغيّر إيجابي على زوجها بعد خضوعه للبرنامج التأهيلي، فقد استمر في سلوكه العدواني، بل أصبح أكثر عدوانية. وتقول إنه ارتكب عنفا فظيعا، فقد حاول خنقها وجرها من شعرها وضرب رأسها بالحائط. وتعتقد سارة أن هذه البرامج ليست كافية لإحداث تغيير ملموس، وإن العدوانيين بحاجة إلى سنوات من العلاج حتى يتغيروا. وتضيف “هم بحاجة إلى إعادة تأهيل طويل جدا، وليس مجرد مدة تدوم ستة أسابيع، لأنهم قادرون على تضليل المدربين”. وتشير التقديرات إلى أن 3000 شخص يحضرون برامج تأهيلية في بريطانيا كل عام، ويستمر الرقم في الارتفاع. ومعظم الذين يحضرون دورات التأهيل هم من الرجال. وتستهدف بعض الدورات المعتدي فقط، لكن بعض البرامج تعقد دورات للطرفين بشكل متزامن، وهناك جدل حول أي الطريقتين أكثر فعالية.وتعقد جيني فيدر دورات علاجية لأشخاص معتدين، ومن خلال تجربتها تقول “إذا تجاهلنا الطرف المعتدي فكأننا نتجاهل أصل المشكلة”. ريتشل ويليامز نجت من العنف العائلي، فقد قضت مع زوجها 18 سنة، وتصاعد العنف الذي تعرضت له مع الوقت. تقول إن هناك ضرورة للاستمرار في مراقبة المعتدين لمعرفة ما إذا تغيروا فعلا. أما دنيز، التي أشرفت على دورات إعادة تأهيل، لأكثر من عشرين عاما، فتقول إنه يجب منح فرصة للراغبين في التغيير. وتقول إنه سيكون هناك دائما أشخاص غير قادرين أو غير راغبين في التغيير، لكن هناك مَن تكون رغبتهم مخلصة ويجب أن يحصلوا على فرص. تعرّف الأمم المتحدة العنف الممارس ضد المرأة بأنّه “أيّ فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه، أو يرجح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة”. والعنف الممارس من قبل الشريك المعاشر يعني ارتكاب سلوك يتسبّب في حدوث ضرر جسدي أو جنسي أو نفسي، بما في ذلك الاعتداء الجسدي والعلاقات الجنسية القسرية والإيذاء النفسي وسلوكيات السيطرة. وورد في تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية بالتشارك مع كلية لندن لشؤون الصحة وطب المناطق الاستوائية ومجلس جنوب أفريقيا للبحوث الطبية أن عنف الشريك الحميم هو من أكثر أنواع العنف شيوعا ضد المرأة، إذ يلحق الضرر بنسبة 30 بالمئة من النساء في أنحاء العالم أجمع. يورد التقرير تفاصيل عن تأثير العنف على الصحة البدنية والنفسية للمرأة، حيث يمكن أن يتراوح تأثيره بين الإصابة بكسور في العظام ومضاعفات مرتبطة بالحمل والمعاناة من مشاكل نفسية وضعف الأداء الاجتماعي. على الصعيد العالمي 38 بالمئة من جرائم قتل النساء يرتكبها شركاء حميمون. قالت الدكتورة مارغريت تشان، المديرة العامة السابقة للصحة العالمية، إن “هذه النتائج مفادها أن العنف ضد المرأة هو مشكلة صحية عالمية ذات أبعاد وبائية. ونحن نرى أيضا أن بإمكان النظم الصحية في العالم أن تفعل المزيد بشأن النساء اللواتي يتعرضن للعنف، ويجب عليها أن تفعل ذلك”. ومن المرجّح أن يواجه الأطفال الذين نشأوا في أسر ينتشر فيها العنف الممارس من قبل الشريك المعاشر مجموعة من الاضطرابات السلوكية والعاطفية يمكن أن تؤدي بهم إلى اقتراف ذلك العنف أو الوقوع ضحية له في مرحلة لاحقة من حياتهم. كما تم الكشف أيضا عن وجود علاقة بين العنف الممارس من قبل الشريك المعاشر وارتفاع معدلات وفيات الرضّع والأطفال ومعدلات إصابتهم بالأمراض (مثل أمراض الإسهال وحالات سوء التغذية). يؤدي العنف الممارس ضد المرأة، أيضا، إلى تكبّد تكاليف اجتماعية واقتصادية ضخمة تخلّف آثارا عديدة على المجتمع قاطبة. فقد تعاني النساء من العزلة وعدم القدرة على العمل وفقدان الأجر ونقص المشاركة في الأنشطة المنتظمة وعدم التمكّن من الاعتناء بأنفسهن وأطفالهن إلاّ بشكل محدود.
مشاركة :