تعد محافظة بيشة جنوب المملكة من المناطق التي تكتنز موروثاً حضارياً مهماً. وكشفت الدراسات التاريخية الحديثة والقديمة عن توزع الاستيطان البشري في شمال محافظة بيشة وجنوبها التابعة لمنطقة عسير عن آثار، ورسوم، ونقوش مختلفة على صخور وجبال بيشة بلغت نحو 10 آلاف نقش ورسم صخري منها: موقع الحَماء في مركز الثنية الذي وجدت فيه آثار تزيد عن 1300 نقش صخري، و50 نصاً كتابياً، لفتت أنظار العديد من الباحثين والدارسين في مجال التراث القديم. < وتمكن الباحثون من رصد مواقع أثرية وجد فيها منشآت حجرية قديمة، ورسوم ونقوش صخرية، وآثار متنوعة تحكي عن حقب زمنية عاشتها مجموعات بشرية في بيشة أو مرت بها في مراحل ما قبل الإسلام، وفي صدره، ومع بداية الدولة السعودية الأولى والثانية والثالثة، واشتهرت معظمها بالبناء الهندسي المثير للتساؤلات لا سيما الأشكال المختلفة التي تقع على ممر الطريق التجاري القديم. وعُرف في محافظة بيشة ومراكزها انتشار الأسواق القديمة والمباني كون هذه المحافظة كانت قديماً ممراً للقوافل التجارية القديم وأولها الطريق المعروف بدرب البخور، وأيضاً كانت ممرا لحجاج جنوب شبه الجزيرة العربية، ويوضح الباحث الدكتور محمد بن جرمان العواجي أن العديد من الرسوم التي تم الكشف عنها في بيشة تعود إلى تاريخ ما قبل الإسلام حيث تم التعرف على بعض النقوش الثمودية فيها وتنقسم إلى المنشآت المادية، والغرف الخاصة، والمدافن. وأشارت بعض الدراسات التاريخية إلى أن العديد من المواقع الأثرية في محافظة بيشة ذات أهمية كبيرة وتمثل عصور مختلفة وتقع على الطرق التجارية المختلفة مثل: الطريق الحضرمي، وطريق الحج اليمني المعروف بدرب (الفيل) والمرصوفة بالحجارة غرباً منه على بعد 5 كيلومترات. وتعد الرسوم الصخرية والنقوش والكتابات من أهم المصادر في دراسة الحضارة العربية والإسلامية في شبه الجزيرة العربية حيث تعطي الدليل المادي والملموس عن مجتمع الجزيرة العربية في الأحوال والقوانين والنظم والحركات السياسية وغيرها، في حين تعد بيشة من أهم مناطق الرسوم التاريخية في المملكة حيث سجلت هيئة السياحة والتراث الوطني أكثر من 100 موقع تحتوي على أكثر من 10 آلاف نقش ورسم صخري، و2000 نص كتابي متوزعة بين سبع مراكز إدارية تابعة لمحافظة بيشة شملت الثنية وتبالة والجعبة والنقيع والجنينة والحازمي وصمخ. وتضمنت الرسوم الحجرية الأشكال البشرية تفاوت أسلوب تنفيذها فقد رسم منها مجموعة بأسلوب النحت الكلي وبعضها بالشكل التخطيطي وبالطريقة العودية البسطة وبعضها تجريدي يبين الأعضاء الذكورية للدلالة على أن الشخص المرسوم رجلاً وبعضها يتمنطق خناجر وسيوف ويحمل أقواساً ورماح، إضافة إلى الرسوم التي تبين شكل المرأة كما شملت الرسوم الحيوانات بأنواعها كالأبقار والوعول والجمال والخيول. وأفاد مدير مكتب الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني عبدالله بن سعيد الأكلبي أن النقوش الكتابية منها العديد من النصوص الثمودية ومنها نصوص بالخط النبطي وأيضاً شملت أكثر من 25 منها نصاً بالخط الكوفي. ووفقاً للعديد من المسوحات والبحث اتضح أن مواقع غرب محافظة بيشة اشتهرت كثيراً بالتعدين، وهو ما يؤكد اهتمام المسلمون بهذه الثروة المعدنية في بناء الحضارة الإسلامية حتى أصبح علماً له رواده واحتوت المنطقة الواقعة بين بيشة والعقيق المتمثلة في فروع وادي تبالة ورنية مناطق معادن قديمة احتوت على أكثر من 21 موقعاً من أهمها العبلاء وجبال الحجار والمنازل والوقبة وكتينة والجابرة والهجيج وسقام واحتوت على مستوطنات سكنية لعمال المناجم التي كانت تستخرج الذهب، والنحاس، والحديد. وتزخر محافظة بيشة بمصادر المياه وأساليب الري القديمة كونها منطقة زراعية قديمة حيث اشتهرت بالآبار اليدوية التي تعتمد على مياه الأمطار الموسمية لا سميا أن أمطارها قليلة ومناخها شديد الحرارة صيفاً، وكانت تكثر البرك والأحواض المائية والقنوات في محافظة بيشة على ضفاف الأودية مؤكدة مدى تقدم الإنسان في استخدام وسائل الري بهدف توفير الماء ونقلها إلى أماكن بعيدة بواسطة قنوات مائية تسمى الفلج واشتهرت بيشة بالعديد من تلك السدود آنذاك والبرك الأثرية التي تؤكد اهتمام القدامى بالزراعة. وأظهرت نتائج حديثة لأعمال التنقيب الأثري التي يقوم بها فريق سعودي تابع للهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني عن العثور على قطع أثرية يعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد في موقع العبلاء - شمال غرب محافظة بيشة ، تبرز مهارة (حضارة العبلاء) في استخراج وتعدين الذهب والنحاس وبيعه، وما كان يتمتع به سكان الموقع من ثراء وتطور منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى العصر العباسي. ويعرف موقع العبلاء محليا بمنجم العبلاء، ويقع على مسيل عدد من الأودية والشعاب، من أهمها وادي رنية ووادي القاع، ويعتبر من أكبر المواقع الأثرية في جنوب غرب المملكة. وعد كثير من المؤرخين، والجغرافيين العرب والمسلمين، والباحثين المعاصرين العبلاء ضمن أبرز الحواضر العربية القديمة لوقوعها على امتداد القطاع الجنوبي من مسار درب البخور التاريخي الذي كان يربط المراكز الحضارية في جنوب الجزيرة العربية بشمالها. كما عاصر الموقع النشاط الاقتصادي لممالك جنوب الجزيرة العربية، وحافظ على أهميته خلال ازدهار تجارة قريش بمكة. ولعبت العبلاء، كغيرها من حواضر جنوبي غرب الجزيرة العربية، بعد ظهور الإسلام دورها التاريخي والحضاري لكونها ضمن المحطات الرئيسة الواقعة على مسار طريق الحج اليمني الأعلى (النجدي) الواصل بين صنعاء ومكة المكرمة، فضلا عن دورها الاقتصادي كواحدة من مجتمعات التعدين في اوائل الفترة الإسلامية. ومما يميز العبلاء وجود منجم قديم أقيم في قمة الجبل يحتوي على ثلاثة آبار يصل عمق إحداها إلى ثمانين متراً، وذلك لاستخراج المعادن من باطنها، وما زالت آثار الحريق والتعدين بارزة للعيان إلى وقتنا الحاضر. كما يوجد بالموقع (رحى) كبيرة عرضها متر وطولها متر أيضاً كانت تستخدم لطحن المعادن المستخرجة من المنجم، إضافة إلى رحى عديدة لكنها تصغره حجماً. وتقع العبلاء في منطقة الدرع العربي التي تشتهر بوجود الكثير من المناجم التي استغلت في استخراج المعادن قبل الإسلام، حينما ظهرت شهرة الذهب في أرض الجزيرة العربية، وأصبح الذهب مطلوباً للشعوب المجاورة للعرب مثل الفينيقيين والآشوريين والرومانيين، وكان من أهم هذه المناجم منجم العبلاء. ولا تنحصر أهمية موقع العبلاء الأثري في المنجم والتعدين فحسب، فهو يضم قرية كبيرة وسوقاً تجارياً إلى جانب المنجم، كما يعد أكبر موقع أثري في الجنوب الغربي من المملكة، وتبلغ مساحة القرية أكثر من كلم مربع، ويصنف ضمن المواقع التجارية والزراعية الهامة. اكتشافات أثرية حديثة أدرج موقع العبلاء ضمن مشاريع التنقيب الأثري في مواقع التعدين التي تنفذها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، حيث نفذ فريق سعودي خلال هذا العام تنقيبات أثرية في الموقع تم خلالها اكتشاف عدد كبير من أساسات المباني والقطع الأثرية. وتأتي أهمية استكشاف موقع العبلاء في اظهار ملامح واحد من أهم مواقع التعدين لفترة ما قبل الاسلام والفترة الاسلامية المبكرة، للكشف عن عمقه التاريخي، وإبراز ملامحه الحضارية والثقافية، والتعرف على أهم مظاهر التحول في إنتاج الخامات المعدنية الثمينة لدى مجتمعات التعدين في جنوب الجزيرة العربية. وبينت المسوحات الأثرية أن موقع العبلاء يعد أحد مواقع التعدين القديمة، ويرجع تاريخه إلى عصر حضارة الممالك العربية القديمة، إذ عُثر على فخار متنوع ينتمي إلى تلك الحضارة التي يرجع تاريخها إلى النصف الثاني من الألف الأول قبل الميلاد. ويتميز الموقع بمباني متلاصقة بشكل مجموعات تفصل بينها أزقة وممرات، استخدم في بنائها حجر الديورايت، ولعل ما يميز الموقع كثرة أمكنة الصهر، وهي بقايا أفران يتم فيها صهر المواد الخام للمعدن. من السمات الأخرى المرتبطة بالمناجم مبانٍ مستطيلة الشكل، تظهر من بقايا مداميك جدرانها جودة بنائها، وتبلغ مساحة غرفها 4 × 3 متر، وتم حصر قرابة 300 وحدة من هذا النوع. مما تم العثور عليه: كِسَر من الفخار، وقطع من الزجاج القديم، ومطاحن، ومدقات حجرية. ومن المرجح استنادًا إلى ما تم العثور عليه في العبلاء أنها لم تكن منطقة ذات فعاليات تعدينية متنوعة فقط، وإنما كانت مركزاً اقتصادياً مزدهراً بمقوماته التجارية والزراعية والرعوية. وتم إجراء مسح توثيقي للمعالم الأثرية الباقية وجمع للملتقطات السطحية المتناثرة في الموقع وهي: منطقة المناجم الموجودة في جبل العبلاء والتي تحتوي على حفر وخنادق استخراج الخامات المعدنية (الذهب، والفضة، والنحاس)، يعود تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد. وتمكن الفريق من تسجيل وحصر أكثر من 600 موقع أساسات للمباني مختلفة المساحات تنتشر على التلال المرتفعة في الجهة الشمالية من الموقع نسبيا باتجاه الشرق وهي عبارة عن تفاصيل بنائية مختلفة الأشكال، الى جانب وجود وحدات معمارية مترابطة بالموقع، ونماذج سكنية فردية ذات غرفه او غرفتين، إضافة الى وجود أزقة وشوارع تربط بين هذه الوحدات المعمارية، مما يشير الى قيام حياة وثيقة بين افرادها. كما تم العثور على بقايا طحن الخامات المعدنية وصهرها داخل الموقع، وتم ملاحظة العديد من الشقوق الارضية والخنادق التي تدل على استخراج الخامات المعدنية ليس فقط في جبل العبلاء، بل تعدى ذلك الجبال الشمالية من الموقع ومن أهمها موقعي المشق ام العشاش في مركز الجعبة، وسجلت أعمال المسح خارج سور الموقع عدد 3 برك مربعة الشكل مرتبطة مع بعضها البعض بواسطة قنوات مزودة بدعامات حجرية يصل عرض القناة الى 70 سم والتي توفر المياه لمستوطنة العبلاء وأثناء عملية المسح الميداني لسطح الموقع عُثر على كميات من الفخار منتشرة جاءت معظمها أجزاء من أواني فخارية مختلفة مزججة وغير مزججة، كما عثر على كسر متنوعة من الزجاج دقيقة الصنع تمثل مجموعة من الصحون، والاكواب، والقوارير، وقنينات صغيرة الحجم، تستخدم للعطور وحفظ السوائل، تحمل هذه الكسر زخارف متنوعة زينت بزخارف ملونة. ونظرا للعدد الكبير لأطنان بقايا التعدين، فانه يمكن القول ان سكان العبلاء قد حصلوا على ما يريدونه من الخامات المعدنية. مخازن لتخزين المياه والحبوب كما تم الكشف عن جرار كبيرة الحجم مدفونة في الغرف، او بقايا كسر لجرار كبيرة اخرى متناثرة بين الطبقات في مربعات التنقيب، تدل على ان سكان المستوطنة استطاعوا انتاج فائض كبير من الحبوب والمواد الغذائية. ونجح سكان العبلاء في ادارة المياه الجوفية لمستوطنتهم، ويشير الى ذلك العثور على مخازن لتخزين المياه، واحواض خاصة لاستخدامها، كما أن هناك اشارات للاستفادة من المياه ايضا للأعمال التعدينية نظرا لقربها من افران الصهر الداخلية. ويدل استخدام الجص بكثافة في لياسة الجدران الداخلية، بالإضافة الى الاعمدة الاسطوانية المصنعة من قوالب جبسية على ثراء اهل المنطقة ومعرفتهم بفنون العمارة واساليبها. واستعمل سكان العبلاء جذوع الأشجار واغصان النخيل في تسقيف منازلهم، والأخشاب المحلية والمستوردة لأبوابهم ونوافذهم، كما ظهر ذلك من خلال اعمال التنقيب. والى جانب تعدين الذهب والفضة والنحاس، يبدو أن سكان العبلاء قاموا ايضاً بتعدين الحديد ويظهر ذلك من كثرة بقايا كرات خبث الحديد، وعدد من المخلفات المصنعة من الحديد كالمسامير، وانصال السكاكين، والمعالق، والشوك، وحلقات الأبواب. وأظهرت عمليات التنقيب وجود اختلاف في اسلوب البناء، فتٌظهر الطبقة السفلية استخدام الحجر والطين بالإضافة الى اللياسة الجصية على الجدران، بينما استخدمت الواح الحجر الصلد فقط في الطبقة العلوية مما يشير الى اعادة استخدام المبنى بصفة مؤقته. وظهرت الافران في اشكال مختلفة منها الفخارية ذات القواعد الحجرية، بالإضافة الى مجموعة اخرى من الافران المحفورة داخل الارض والمبطنة بطبقة صلبه من السليكا، وتبين أن اهالي العبلاء طحنوا خاماتهم المعدنية والغذائية في انواع مختلفة من المطاحن الدائرية الشكل، والمستطيلة المقعرة من المنتصف، بالإضافة الى احجام مختلفة من الرحي مصنعة بدقة عالية من احجار الجرانيت والحجر البركاني. بيشة.. الغنية بالآثار وتعد بيشة - التي تقع على حافة هضبة نجد - من المناطق الغنية بالآثار التي يعود عمرها إلى أكثر من ألفي عام، لأنها كانت ممرا للقوافل وتوالت الحضارات عليها، إذ تم اكتشاف كثير من الآثار، مثل تبالة والثنية والعبلاء غرب بيشة، وقريتي الخضراء والمعدن اللتين تبعدان عن محافظة بيشة 80 كيلومترا جنوبا، وتم اكتشاف أيضاً بعض المواقع والقطع الأثرية والنقوش القديمة، ما يدل على كثافة السكان منذ العصور الجاهلية الأولى. ومن المواقع الأثرية والتاريخية في بيشة قصر شعلان وقرية الكليات بتبالة، وحوطة مطوية وطريق الفيل والطريق التجاري القديم بالثنية، وغيرها من مواقع الرسوم والنقوش والكتابات الصخرية، حيث تعد من أهم المواقع الأثرية في المحافظة. ويزيد عدد المواقع الأثرية في محافظة بيشة عن 203 مواقع، منها 89 موقعاً للرسوم والنقوش الصخرية، تحتوي على 5090 رسمة و931 نقشاً كتابياً، تتصدرها النقوش الإسلامية بعدد 539 نصاً يعود تاريخ معظمها إلى القرن الأول الهجري، ثم 334 نصاً تعود للنقوش الثمودية، فنقوش المسند الجنوبي بعدد 49 نصاً، ثم نقوش الخــــط النبطي وعـــــــددها تسعة نصوص. وكانت الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني نظمت زيارة ميدانية لقيادات المجتمع المحلي في محافظة بيشة إلى موقع «العبلاء» الاثري بالمحافظة، وذلك في إطار أنشطة مسار التوعية في برنامج خادم الحرمين الشريفين للعناية بالتراث الحضاري للمملكة.
مشاركة :