مفردة بشاعة لا تكفي

  • 1/1/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تلك بكل بساطة تتحقق في أن تعيش الحدث عن كثب، فتكون بذاتك ومخاوفك وحسرتك وتألمك وحيرتك وضعفك مدفونا بين الركام، تحير الدمعة المتربة في عينك وأنت مكلوم الجمجمة والأضلع مفكك الأطراف منحرف المفاصل لا تحيط بحقيقة ما أنت فيه من فاجعة، وتحاول أن تخرج جسدك بأي حال يكون عليه من تحت الركام.. أن ترى بعض أحداث الحروب على شاشة التلفاز وأنت تحتسي مشروبك الساخن، وتداعب بهجة أبنائك الصغار، على أريكة ناعمة، وتحاول تغيير القناة، متمنيا ألا يكون المنظر المحزن الأليم البشع قد علق بأنظارهم ومشاعرهم البريئة، وهم يسألونك عن حقيقة أو خيال ما يحدث من بشاعة، منظر قد يكون ذلك بشعا بالنسبة لك، وأنت تعيش الأمن والأمان، بعيدا عن مناطق الصراع. ولكن هل تعرف ما معنى البشاعة الحقيقية، التي تستحق أن يكون لها مفردة جديدة بأبجدية أكثر واقعية وشمولية تعبر عن منتهى البشاعة؟. تلك بكل بساطة تتحقق في أن تعيش الحدث عن كثب، فتكون بذاتك ومخاوفك وحسرتك وتألمك وحيرتك وضعفك مدفونا بين الركام، تحير الدمعة المتربة في عينك وأنت مكلوم الجمجمة والأضلع مفكك الأطراف منحرف المفاصل لا تحيط بحقيقة ما أنت فيه من فاجعة، وتحاول أن تخرج جسدك بأي حال يكون عليه من تحت الركام. مجرد أن تنظر مفزوعا وتدور بعنقك وسط الأتربة والغازات الخانقة تبحث عن وجه من كان يتحدث معك في نفس الزاوية من المنزل، ولا تجده، أو أن تعثر على جزء منه معجون بالدماء، أو أن تجد طرفا من ملابسه بارزة تحت وطأة السقف الخرساني المنهار، أو تسمع أصوات تألم أقرب الأشخاص إليك، تنبعث من غور، وهم في نزعهم الأخير، مرتعبين عاجزين يتشبثون بصراخ وأنين وبكاء، تلك هي قمة البشاعة. أن تتناسى كل ما بك من آلام، وتبحث عن أمك أو ابنتك أو أخوك أو أختك فلا تعود تعرف أين يجب أن تحفر بأظافرك الدامية بأمل إنقاذه، ومهما بلغت بشاعة الدقائق بما لا يمكن نقله بالصور المباشرة من قلب الحدث. أن تتمنى البكاء والاستغاثة فلا تقوى على إخراج صوتك من كثرة ما حشر في عينك وحلقك من الغبار والتراب بشاعة، وأي بشاعة. أن تُخرج جسد طفلك الصغير، وهو هامد ملتصق بجسد أمه، التي حاولت إنقاذه في آخر لحظاته، فالتصقت به إلى الأبد بشاعة تعجز كل لغات الأرض عن توصيفها بما يلزم من حزن ودموع. أن تفقد السمع، وتمسح على طرف أذنك، فتجد جزءا من طبلة الأذن قد تحول إلى كتلة دم معجونة بالشعر والتراب، ولا تجد بعض أصابعك، وأن تشعر بجسم غريب دخل بين أضلاعك، لا تعرف كنهه، بشاعة لا يعرفها إلا من عاشها، بنفسه، حتى ولو كانت آخر منظر يتذكره قبل رحيله. أن تضطر لحمل جثث من تحبهم بنفسك، وتقوم بدفنهم كيفما اتفق في أي حفرة جماعية، دون مراسم، ودون تهيئة، ودون حتى صلاة وداع، تحت القصف المستمر، والموت المشتت للأرواح، والناثر للأعضاء، بشاعة تتقزم أمامها كل الصيغ والمعاني المنقولة والمعبر عنها بشريا. أن تجد أنك هدف لقناص لا تعرفه، وأن تسحب قدميك لتهرب، وتحتمي ببعض الجدران الخربة، حتى تدرك أن شيئا ساخنا سريعا قد عبر فقرات ظهرك، أو أخرج جزءا من دماغك الملتصق بقطعة من فروة رأسك، لا تمتلك استعادتها بشاعة. أن تدوس على لغم مختبئ في التراب، لترتفع أشلاء جسدك إلى مسافات عالية في السماء، مسابقة لنزوع روحك بشاعة. أن تدهسك مجنزرة، كلك أو جزء من جسدك، حتى تلتصق بحجارة الشوارع بشاعة. أن تستنشق الغازات الكيميائية، فتدرك أن الرئة لم تعد ذات فائدة، وأن أضلاعك تقاربت لحد الموت بشاعة. أن تكون عاجزا عن الهروب من وطنك، فتقع ضحية لعاشقي دماء مختلين يتصارعون بكل قوى الشرور الإنسانية فوق مخاوف جمجمتك، وهم يرونك أنت وأهلك وأحبتك بيادق يلعبون بها، ويسحقونها، ويهجرونها، وعندما يملون اللعبة يحرقون كل ما حولها بشاعة، لا يعرفها إلا البشر، فهم في ذلك يفوقون جميع شرور المخلوقات الأخرى على وجه البسيطة. كلامي هنا محاولة هزيلة مني لتصوير البشاعة بلفظ أقرب إلى واقعها، وكلمات مثل دمامة، قباحة، مسخ، شناعة، شَوَه، فظاعة، تظل كلمات بشرية ناقصة عاجزة عن تصوير بعض حقيقة بشاعة ما يحدث بشرقنا الأوسط.

مشاركة :