دمشق - من يحاور الموسيقار السوري غزوان الزركلي، يعي أنه أمام حالة فنية خاصة، فهو رغم تخصصه في الفن الموسيقي ونيله أرفع الشهادات العلمية في مجاله، إلاّ أنه إلى جانب ذلك عارف فذ بالتاريخ الفكري والسياسي للمنطقة العربية والعالم، بحكم دراسته في أكثر من بلد عالمي: الاتحاد السوفييتي، مصر، ألمانيا وغيرها.. اكتسب معرفة علمية هامة في الموسيقى وتاريخ الشعوب، الأمر الذي انعكس على إبداعاته التي لم تقف عند حدود العزف في كبريات دور الأوبرا في العالم، فألف وترجم الكتب الموسيقية، كذلك وضع ألحانا سجل منها واحدا وعشرين مقطوعة موسيقية. الموسيقار السوري التقته “العرب” في أوبرا دمشق فتسأله أولا عن كيفية تفاعله مع الموسيقى الغربية التي تعلمها وهو ابن الثقافة الشرقية الأصيلة، فيقول “الموسيقى الكلاسيكية في منظورها العالمي منشؤها أوروبا، وهي فن أوروبي خالص، ولكنها مع ذلك هي تراث إنساني وعالمي، وهي ليست ملكا لأوروبا فحسب، تماما كما الثقافة العربية القديمة التي أصبحت تراث الإنسانية كلها”. ويرى الزركلي أن “الحضارة شيء متحرك، والفن يعني الحضارة، الفن مرتبط بالحياة، الفن هو موقف جمالي من الحياة، الفن حسب فهمي هو فعل يقوم به الإنسان في هذه الحياة القصيرة التي يعيشها لتكون حياته أجمل ومليئة بالإحساس، الفن يعني إضفاء لمسات إنسانية على مسيرة حياته كلها، هي عملية دائمة لم ولن تتوقف، لأنها مرتبطة بالحياة”. والنتاج الفني، بالنسبة إليه، هو فعل مُعارض بالمعنى البنّاء، مُعارض لكونه يهدف لبناء إنسان أكثر شعورا بالجمال وأكثر انتماء لحضارته ووطنه وأكثر سعادة في حياة كريمة، وهو يرى أن “الكلاسيك أوروبي المنشأ، ولكنه ملك الإنسانية، لذلك لا مانع من تذوقه مع كل شعوب العالم”.ويرى غزوان الزركلي أن الجذوة الشرقية التي تتوقد في داخله كفنان، يمكنها أن تضعه في تصنيفات محددة من حيث الأداء، فهو أقرب للمزاج السلافي الشرقي منه إلى اللاتيني الأوروبي. ومن هناك يعترف الزركلي بأن الموضوع متعلق بالإحساس العالي الموجود في العمل الفني والذي يجعله قادرا على التأثير الموسيقي في النفوس، وفي رأيه أن الأعمال الموسيقية، على سبيل المثال، تجعل الإنسان الذي يعيش حياة قصيرة أكثر سعادة، وهو يتحاور مع غيره في هذا الكم الكبير من العمق الموسيقي والإحساس. ويوضح “هنا يكون الإنسان أكثر نبلا وتذوقا للجمال، وهذا يعطيه شيئا أكبر من المواساة، ليعيش حياة بأقل قدر ممكن من التعاسة، هنا يكون الإنسان أكثر إصرارا لتكون حياته أكثر قيمة، وبهذا المفهوم يمكن للإنسان من خلال هذه الموسيقى حين دنوّ أجله أن يسأل نفسه، ما إذا كان قد عاش بشكل جيد خلال هذه الحياة القصيرة، إنه الفن الذي يعني قبول النهاية المأساوية، وهي الموت”. وفي مقاربة لما يقدمه من فن مع ما سبق أن قدمه الفنان العالمي مصطفى العقاد سينمائيا، من حيث معالجة موضوع شرقي عربي، أمام جمهور عالمي غربي، وكيفية تفاعل الجمهور العالمي مع ذلك، يقول “ألتقي مع الراحل مصطفى العقاد، الذي كان صاحب مشروع فني كبير، في نظرته لمسألة التكوين الثقافي الغربي والشرقي، وأنا أرى العقاد السينمائي المخرج، هو بالأساس مؤلف فذ، جاء بقصة الرسالة الإسلامية وقدمها للجمهور العالمي بشقيه الغربي والشرقي كمؤد أصيل، ومُضيف رشيق أيضا لما خطه المؤلفون الذين كتبوا نص الفيلم”. ويستطرد “في عملي الموسيقي الأخير، الكونشرتو رقم 3، هناك مؤلف، هو الموسيقار الروسي رخمانينوف، وأنا أقوم بعمل الإخراج الموسيقي له ليصل إلى الجمهور، السؤال المطروح هنا: هل تؤثر الشخصية الوطنية للعازف على أداء معزوفة محددة؟ برأيي نعم، الأمر متعلق بالشعور وبالاحتراف، فلا يكفي الشعور، هنالك مهارات يجب امتلاكها وعلى سوية عالية، أعتقد أن مسألة الروح أساسية هنا”. ويختم غزوان الزركلي حديثه مع “العرب” بقوله “أدعي أنني كعربي قد أستطيع أن أؤدي لرخمانينوف بشكل أقرب مني إليه من الألماني وحتى الروسي الذي هو في الأصل شرقي المزاج، قد أصل لأمور مع رخمانينوف لا يستطيع هو ذاته أن يصل إليها، والسبب الأول هنا متعلق بالوجدان، هذا الأمر مغروس في الجينات، ربما لأن المزاج الأدائي في الغرب قد تغير اليوم، وصارت له مواصفات دخل فيها عنصر الترويج والأكروبات، حيث بات يفضل أن يكون العازف أنثى وليس رجلا، ولا بأس من إضفاء لمسات أنثوية على أزياء العازفات وغير ذلك، هذه مستجدات كسرت حالة النموذج التقليدي للحالة الأدائية القديمة، والسبب الثاني كوني قريبا من الموسيقى الشرقية ولي فيها مؤلفات مسجلة بلغ عددها حتى الآن إحدى وعشرون عملا، وبذلك أستطيع أن أكون الاثنين معا؛ غربي بروح شرقية وشرقي بمهارات غربية”.
مشاركة :