إذا كانت أعراض فشل الحداثة متعددة، فإن ظاهرة الأصولية المتطرفة تبقى أحد أبرز هذه الملامح لفشل عقل المجتمعات العربية مع الحداثة في ضوء ما يجري فيها الآن. فمنذ بداية توهجها عربياً في بداية القرن العشرين، بدأ يظهر التيار الأصولي المضاد لها في الخطاب المجتمعي بظهور جماعة «الإخوان المسلمين» التي أخذت من تبنيها هذا النهج مصدراً لشرعية وجودها. ومن يومها أصبح عداؤها مع كل ما هو غربي، وأصبح حديث كل بدعة ضلالة استهلالية للخطاب الديني، ونهجاً في تفكير الغالبية منه، فدفن العقل وهو حي. فبعدما استطاع إخوان مصر نشر تنظيماتهم خارج حدودها، بدأت مرحلة التطور العكسي بالانتقال والتَحوُّر في الأفكار الأقل تشدداً إلى الأفكار الأكثر تطرفاً لتخرج من عباءتها في بداية سبعينات القرن الماضي، عقب فتح الباب لهم من قبل النظام السياسي، جماعات إسلامية جديدة مكفرة للمجتمع. وفي ثمانينات القرن الماضي بدأ يتبلور الطَور الثاني بتداخل التوظيف الاستخباراتي لاستخدام الجهاد لتحقيق أهداف سياسية مع الأهداف الدينية بعدما تم شحن الجهاديين إلى أفغانستان بحجة محاربة الشيوعية والانتصار للدين الإسلامي وهم في الواقع يحاربون خدمة لمصالح دول أخرى. وهذه المرحلة ساهمت في أفغنة الثقافة والتدين في الكثير من المجتمعات العربية بدءاً بالزي واللحية على رغم أنهما مرتبطان بالأساس بعادات قبلية أكثر من ارتباطهما بالتدين. ويتعدى هذا التأثير النمط الثقافي والسلوكي إلى طبيعة الشخصية نفسها التي عادت مرة ثانية إلى المجتمعات التي خرجت منها فأينعت طوراً جدياً من المتطرفين وأصبح هذا العائد من أفغانستان محل جذب وانتباه للآخرين، فكثر التجنيد والتابعون. وهنا شهد العقد الأخير من القرن الماضي في مصر هوجة الجماعات الإسلامية التي تنوعت في المسميات وتباينت نشأتها المناطقية وتعددت في عدد التابعين لها، إلا أن ما كان يجمعهما هو القيام بالاغتيالات واستهداف رجال الأمن والسياح والمسيحيين وتكفير المجتمع. لكن النتائج السلبية على المجتمع والرأي العام ومواجهة الدولة لهم أجبرتهم على القيام بالمراجعات في مصر داخل السجون التي كان يقيم فيها معظم قيادات التنظيمات الدينية الجهادية. أما الخطورة الأكبر، فبدأت في الطور الثالث الذي بدأ يظهر مع المقيمين في الخارج، خصوصاً مع من تبقى منهم داخل الأراضي الأفغانية ضمن تنظيم «القاعدة» لمحاربة أميركا. ولم تكن تهديدات «القاعدة» تؤخذ على مأخذ الجد، حتى وقعت هجمات 11 أيلول (سبتمبر) لتقود أميركا تحالفاً دولياً ضد الإرهاب، فكان احتلال أفغانستان والعراق. وخلال عشر سنوات تحققت بيئة تنتج الطور الرابع من فيروس الإرهاب الذي لخص كل مراحل التحور السابقة في هذه المرحلة ولتظهر «داعش» على أنقاض كوارث الاحتلال الأميركي للعراق، في هذا الشكل الوحشي في التصرفات تحت غطاء إقامة شرع الله. ويمكن إجمال ما يحدث في مجتمعات ما بعد ثورات الربيع العربي في الطور الخامس، بالتنويعات المختلفة للأشكال الإرهابية ما بين «داعش» وما على شاكلها من تنظيمات. ودلالة هذا الطور تتضح في الظهور العلني لإرهاب «الإخوان المسلمين»، بعد أن فشلوا في سنة حكمهم في مصر. ويلاحظ أن لهذا الطور شكله الفريد، فهو لا يتجسد في تنظيمات مسلحة واضحة للعيان مثلما هي الحال في كل من اليمن وسورية وليبيا، وإنما هو مرتبط بالشكل المتعارف عليه للإرهاب الذي يستهدف الأبرياء غدراً، ويخرب المنشآت ذات الملكية والمنفعة العامة، ويستهدف جنود الجيش والشرطة بالمتفجرات. وظهوره بهذا الشكل على مدار سنتين يدل على أن المجتمع والدولة ما زالا متماسكين في مواجهتهما التي لو غابت لأصبح الطريق سهلاً ليظهر في العلن مثل حالة «داعش» وغيرها. وعلى رغم بشاعة ما يفعله الإرهابيون في مصر ضد الممتلكات العامة وأرواح المصريين، إلا أنه كشف عن حقائق عدة، أبرزها فشل وضرر التكوين العقلي والثقافي لهذا التنظيم، ليس مع قيم الحداثة فحسب، وإنما مع قيم الدين نفسه التي تَمثلها شكلاً واغتالها من حيث المضمون والجوهر، كما أنه برهن بكل هذه الأفعال على أن العقلية الإخوانية لا تقبل إلا بأن توجد في حيز الاستبداد الديني الذي صنعته وفق رؤيتها، أو بالإرهاب والقتل. وهو الأمر الذي يزيل اللثام عن ثمانين سنة من الخداع والتخفي تحت اسم الدين لتظهر الجماعة باعتبارها التنظيم الإرهابي الأم لكل من خرج من عباءتها ومن سار على نهجها.
مشاركة :